صالح الرافعي
صالح الرافعي([1])
(1852 ـ 1915م)
هو اسم على مسمى بصلاحه وتقواه، واندفاعه إلى الخير والتقوى والإيمان قولاً وعملاً، قالوا: إن طرابلس الشام هي منبت العظماء، وليس في هذا مبالغة، فيكفي أن يظهر منها الرافعيون في سوريا ولبنان ومصر، وأن يكون منها المغربي والحسيني والجسر، وأن تكون منبتاً لمعظم البطارقة والأحبار وكثيراً من السادة العلماء الأبرار، ولكن صالح الرافعي بدر اختفى وكان نوره مشعًّا وضاء.
ولد المترجم في مدينة طرابلس عام 1852م ولا نعلم أين درس ولا أسماء الذين درس عليهم بل نعلمه أستاذاً مدرساً وعالماً نحريراً.
وظيفته في الحكومة: وكان قد تقلب في وظائف عديدة آخرها نظارة دائرة النفوس في بيروت في العهدي الحميدي وواعظ وإمام في بعض المساجد، وكان في وظيفته مثال العطف واللطف تجاه كل من قصده، ولما عظم نفوذه عزل من الوظيفة، وافتتح حلقة درس في الجامع العمري فكانت منهل الوراد وكعبة القصاد، ولما عوتبت الحكومة على عزله، اعتذرت، ثم عرضت عليه الرجوع إلى الوظيفة فأبى، وبقي في المسجد العمري يدرس طلبة هم الآن أنوار العلم المشرقة، إلى أن أعلن الدستور العثماني عام 1908م وتأسس حزب الاتحاد والترقي في البلاد فكان جماعة الاتحاديين يبحثون عن كل ذي مكانة ليبوئوه مقاماً توطيداً لحزبهم، فاختاروا المترجم مرخصاً لجمعيتهم في البلاد السورية فقبلها أولاً بقصد خدمة الناس، وأسندوا له وظائف، منها أستاذ للمجلة في مكتب الحقوق وللتدريس في المكتب السلطاني العربي، وغير هذه، فبقي يقوم بها إلى إعلان الحرب العامة الأولى حيث انتقلت هذه الدوائر من بيروت إلى دمشق فجاء دمشق وفيها لاقى وجه ربه.
أخلاقـه: لقـد كـان حرًّا لا يخشى فـي الحـق لومة لائم، وكان من رأيه أن لا تدخل الحكومة العثمانية في الحرب لأن دخولها سيقضي عليها في سبيل مصلحة ألمانيا، ولم يكن راضياً عن سلوك رجال الدولة العثمانية، وكان في دمشق يسخر علناً حين يرى جملين يحملان مدفعاً ليمرا به في صحراء التيه، ويتأسف ويتحرق على هذه الأمة التي ستكون وقوداً لنار الحرب، وعلى الجنود المساكين وحالتهم، وعلى الأيتام والأرامل.
أحواله المادية: كان من المتوكلين على الله لم يدخر مالاً، ولا احتاج أحداً بل كان كريم النفس واليد ينفق كل ما يأتيه على المعوزين والمعسرين، وكثيراً ما تبرع بجبته أو ردائه إلى غيره فكساه الله ثياباً من الهيبة والدرجة الرفيعة.
سمعت مرة ابنه البكر يقول له: يا أبتي سأعطي طقمي هذا إلى جارنا وهو فقير الحال فقال له: أنا ما هكذا علمتك يا نصوح! أتتصدق بما تكره والله تعالى يقول: ﴿ﱁﱂﱃﱄﱅﱆﱇ﴾ أعطه جديداً ليزرقك الله غيره! وكان لا يحسب القوت الذي يأكله من نصيبه، فإذا مر سائل أو جائع تراه يؤثره على نفسه.
منزلته العلمية: هو عالم وفقيه ومحدث، وأديب وشاعر، ولكن تلامذته وذويه قد قصروا بواجبهم، فلم ينشروا آثاره، وربما أرادوا الاحتفاظ بها لأنفسهم عن طريق الحجود والأنانية، غير أننا نذكر من شعره قصيدة عجلاء نظمها وتلاها في حفلة رسمية أقيمت في دمشق إثر رجوع قوات الحلفاء من الدردنيل قال:
يكيد الدردنيل ولا يكاد | وتقصر دونه السبع الشداد |
ويكبر أن تماثله حصون | ولو أن النجوم لها عماد |
منيع الركن لا يعروه وهن | وعنقاء الحصون فما يصاد |
توسط في الدنا ما بين شرق | وغرب فهو للدنيا فؤاد |
ومنها:
تجمعت العداة عليه ترمي | صواعقها كما اجتمع الجراد |
فردوا ثم عادوا عن غرور | فما نفع الغرور ولا استفادوا |
وقد آب الألى سلموا خزايا | سواد وجوههم لهم حداد |
ومنها:
فقل للطامعين ألا استعدوا | وعودوا إن حلا لكم المعاد |
فهذا الغاب مملوءاً أسودا | يلذ لها بجمعكم الجهاد |
وأملاك السماء به أحاطت | لتحرسه إذا احتدم الجلاد |
وختمها بهذين البيتين:
فلا زال الرشاد لنا إماما | يسود على الملوك ولا يساد |
تعز به عناصرنا ويبقى | لنا فيه ترقي واتحاد |
نكبته ووفاته: كان إذا دخل المسجد احتاط به المصلون ليسمعوا منه درساً أو وعظاً أو حكمة، فدخل المسجد الأموي وجلس يلقي درساً وقد ذكر الحديث ـ لعن الله بني قنطوراء فإنهم أول من يغتصب من أمتي ملكها، وشرح الحديث شرحاً وافياً، وقال بأن التاريخ قد أثبت بأن بني قنطوراء هم الترك ـ فحمل الجواسيس خبر هذا الدرس إلى الحكومة، فأمرت باعتقاله وسجنه، فقام السادة العلماء وتوسطوا الحكومة للإفراج عنه، ورأت الحكومة بأن لابد من إجابة طلبهم فأفرجت عنه وخرج من السجن، إلا أنه توفي بعد بضعة أيام متأثراً من الخوف ومعاملة السجن، فدفن في دمشق وأعقب أولاداً ثلاثة، منهم: نصوح وقد توفي قبل أبيه، والأستاذ راشد وهو من رجال العلم والشرع في لبنان اليوم.
* * *