ضياء رجب
ضياء رجب([1])
(1899م)
رأيت صاحب هذه الترجمة في الحفلات التي تقيمها عادة السفارة السعودية بدمشق في المناسبات القومية، فلفت نظري سمة التواضع التي يتحلى بها العلماء، وفي تواضعه هذا عظمة تهيمن على القلوب، ورأيته رجلاً مهاباً ترمقه العيون وترتسـم علـى محيـاه انفعالات مـن الشجن وأثر ألم أهـاج نفساً مكلومة حزينة، وابتسامات غريبة مبهمة وهو بين تجهم وجهه وانبلاج ثغره، وشاقني أكثر شيء معرفة هذا الرجل الذي يمشي خطاه وئيداً كالليث المتحفز للوثوب في جلال ووقار، وكان بجانبي العالم والشاعر الجهبذ الأستاذ راغب العثماني فسألته عنه، فأجاب أنه الأستاذ ضياء الدين رجب الشاعر السعودي العبقري، وقد أتى دمشقليعالج قرينته من مرض ممض.
وطال أمد مكوث المترجم الأجل في ربوع دمشق، فقرأت له ما نظم من قصائد بليغة استعان بها على سلوان الآلام النفسانية، وكانت بنيته معاشرة العلماء والأدباء ومساجلتهم في شتى الأبحاث العلمية والأدبية، وأسعدني الحظ فتعارفنا.
مولده ونشأته: هو الأستاذ ضياء الدين رجب بن المرحوم حمزة رجب، وأسرته قديمة العهد في المدينة المنورة، ولد فيها سنة 1899م، وتلقى دراسته الابتدائية في مدرسة أميرية، ثم تابع دراسته العلمية والأدبية في حلقات الدراسة التي يعقدها العلماء في المسجد النبوي الشريف حتى حصل على إجازة التدريس العالية من أئمة الأعلام.
في خدمة الحكومة السعودية: درَّس في المسجد النبوي الشريف مدة، ثم عين أستاذاً فمديراً في إحدى مدارس الحكومة، وانتسب إلى القضاء سنة 1935م فعين قاضياً لقضاء العلا، واشتغل في الصحافة فحرر في جريدة المدينة المنورة، ثم قاض للقضاة، فمفتشاً عامًّا للأوقاف، فوكيلاً لمديرية الأوقاف العامة، فمساعداً لأمانة العاصمة في مكة ثم مستشاراً لها، وأخيراً عين عضواً في مجلس الشورى وما زال فيه حتى الآن، وقد أظهر في هذه الوظائف كفاءة وعفة، وبرهن على أنه نابغة سعودي تسجلت له في ميدان الألمعية آيات بينات في العلوم الدينية والعصرية والتشريع والقانون والأدب والشعر.
الداعية الأكبر: وهو بالرغم من العيش (ضمن إطار الراتب) فإنه عاف أباطيل الحياة مكتفياً من طعام الدنيا بلباس العروبة المهيب، وهو بحق قدوة الأعلام السعوديين ومثلهم الحي، وشعارهم في موهبته وأخلاقه الفاضلة، ومن أبرز سجاياه غيرته المحمودة على وطنه السعودي وإخلاصه لمليكه المفدى، وقد قل في المجتمع من كانت فيه هذه الغيرة النبيلة خلقاً فيه، وعقيدة لا يبغي من ورائها أية غاية، وقد توالت اجتماعاته بأعلام دمشق، فكان درة لامعة في العقد العلمي، فإذا سئل عن أحوال وطنه ومليكه رأيت فيه صورة فذة للشاعر الملهم، والمتحدث العليم، والداعية الأكبر لمجد بلاده ومليكه بمنطق ساحر، ولعمري فإن آزروه برضاهم وشرفوه بثقتهم فقد عرفوا لرجالهم أقدارهم وحفظوا لهم جميل أعمالهم.
شعره: هو علم من أعلام اللغة العربية، وعالم من أنفع علمائها، وشاعر إنساني في شعوره وشعره، وعصامي رفع من شأن نفسه بنفسه، يمقت الخيلاء والدعاية وحب الظهور ويرى فيها حطة مشينة مفضوحة استحكمت في عقول المدعين العاجزين، أحب الأدب منذ الصغر فطغى على روحه، ينظم القريض وهو بعيد عن كل سلوة بشرية، له ديوان شعر مطبوع كالحديقة الزاهرة، فيه كل ما تتغذى به النفس من ثمار الإبداع.
ومن نظمه قصيدة أنشدها بمناسبة عيد جلوس جلالة الملك سعود المعظم نقتطف منها قوله:
وإن سرها عيد الجلوس لضيغم | فبالوحدة الكبرى يشع (سعودها) |
وختمها بالنجدة لفلسطين فقال:
وفي طيها تطوى (يهود) وعونها | وما داء قلب العرب إلا (يهودها) |
على أن هذا الشاعر الراضي بنصيبه في الحياة يعلم أن الدنيا ليس بها لذة إلا ممزوجة بألم، وترى في حديقته الشعرية أيضاً جوانب تجري بها الدموع، فقد اكتنفته المصائب فأعدمته لذة الحياة، فوقف أمام قبر الرسول الأعظم يستهل نشيده الرائع بخشوع في الحالات التي يضيق بها المرء بالدنيا، وأقسم أن الله استجاب لابتهالاته، وهذه بعض أبيات من قصيدته البليغة:
حسبي من دنياي والآخرة | لثم الثرى في أرضك الطاهرة |
ولست أستأهل رجوى اللقا | أو عطفة أو نظرة عابرة |
وما ادعيت الحب من دونه | جمر غضى في الأعين الساهرة |
الأعين الظمأى إلى نوره | قد شفها منه لظى الهاجرة |
فمن أنا إلا غثاء بدا | ويذهب ماضيه له حاضره |
فيا أبا الزهراء أرجو بها | لأنها زهرتك الناضرة |
تخذتها وابنتها زينبا | وأمها قرباي والآصرة |
أن لا أجافي عن هوى طيبة | في لمحة أو خطرة خاطرة |
في خلجات الحس في نبضه | في سره في الهجعة الآخرة |
وللشاعر قلب مرهف دائم الخفوق وقريحة طيعة، وترى في شعره الغزلي سحراً رائعاً من وحي إلهامه يطلقه في غير عنت أو تصنع، ومن شعره قصيدة بعنوان (إليها) قال:
وقالت تحدث عنك، عني، عن الهوى | عن السر حيث السر قلبك أو قلبي |
تحدث عن الآمال سكرى حوالما | يفيض بها صب معنى إلى صب |
وقلها كما شاء الغرام طليقة | فإن حديث الحب أحلى من الحب |
ولا تنسني لا تنس مني خافقاً | يعيش على ذكراك في البعد والقرب |
أجل قلتها يا منية القلب حرة | تنقل من هدب ظليل إلى هدب |
تبينت فيها حيرة ما عهدتها | ورعشة قلب لا تبين ولا تنبي |
وطاف بقلبي طائف وتفتحت | لعيني آفاق من الأفق الرحب |
تمثلت يوماً ما تمثلت غيره | غداة التقينا موعد الغيب في الغيب |
وما قادني خطو إليك حثثته | ولكنه قلبي وحسبي به، حسبي |
ودقت حنايا القلب ساعة أبعدت | مواكب هذا الحسن وكباً إلى وكب |
أشارت بإكبار إليها إلى التي | هي البدر محروساً بكوكبة الشهب |
تلفت مني القلب يسأل نفسه | أيطمع في سلبي أيؤمل في نهبي |
ولم تبق مني الحادثات ولم تذر | سوى شبح ذاو ولكنه قلبي |
فطر المترجم الأجل على الرزانة والشمم والهدوء في جميع تصرفاته، وتلمس في شعوره النبل، وتلمح في سجاياه الأريحية موروثة مطبوعة.
p p p