طاهر شمس الدين
طاهر شمس الدين([1])
الشاعر الفنان والعالم الفذ الشيخ طاهر شمس الدين
الحمصي
من الأمور المؤلمة أن بعض الأفراد يبلغون من العلم والشعر والفن والكرم في حياتهم مكانة مرموقة بين الناس حتى إذا ما وافاهم الأجل المحتوم ضاعت آثارهم ولم يبق من ذكراهم إلا الاسم فقط، والمترجم من هذه النوع رحمه الله وعفا عن ذويه الذين نكبوا الأدب بضياع آثاره الأدبية والعلمية والفقهية.
أصله ونشأته: ولد المترجم في حمص سنة (1838) ميلادية وكان يسكن في محلة ظهر المغارة، نشأ بكنف والده في ظل النعمة والرفاهية من عائلة لها المجد الأثيل والحسب العريق، قرأ على علماء عصره العلوم العقلية والنقلية وتبحر في الفروع والأصول فبرع وفاق، فكان أستاذ المذهب الشافعي وعالم حمص وكوكبها الذي به تستنير، ورث وظيفة الإمامة الشافعية بمقام سيدنا سيف الله خالد بن الوليد عن جده الأكبر المرحوم شمس الدين الذي استحصل على براءة سلطانية بذلك وقد اطلع المؤلف على نسختها الأصلية المحفوظة لدى ورثته، ويرجع تاريخها إلى أوائل شهر ربيع الآخر سنة إحدى وخمسين وألف هجرية، ويتناول لقاء خدمته مجر الفدان بقرية كفر عقب.
كان المترجم يتعاطى تجارة الحرير والغزل وحياكة النسيج الذي اشتهرت به حمص، وإني إذ أكتب عن الفقيد فإن الألم ليحزُّ في النفوس لضياع آثاره القيمة، فقد بذلت الجهد للاطلاع على آثاره الناطقة بفضله وعلمه ومآثره الدالة على أدبه وشعره وفنه، فذهبت مساعيَّ أدراج الرياح، لأنها ضاعت مع الأسف بين ورثته الذين لم يعرفوا قيمتها وأهملوا صيانتها، والأغرب من ذلك أن ورثته يجهلون حتى تاريخ ولادته.
وبعد البحث الذي استغرق وقتاً طويلاً وجهداً مريراً استطعت إخراج تاريخ ولادته من سجل النفوس التركي، أما تاريخ وفاته فلم يثبت على قيده في النفوس حين الوفاة، وكانت شاهدة القبر خير معوان لذلك لمعرفة تاريخ الوفاة، وهو عام 1898 ميلادية.
صفاته وعلمه: هو أحد علماء حمص البارزين، كان فاضلاً تقيًّا، ومرشداً صالحاً، سديد الرأي طلق اللسان، حسن العشرة وضرب الأمثال في الأخلاق الفاضلة والرقة واللطف.
كان ذا نعمة وشمائل حسنة، محبًّا للعلماء والمساكين والفقراء، مكرماً للأدباء والشعراء والفنانين، بيته مرتع الفضلاء وملتقى أهل الفن والأحباب والأخدان، ومن مآثره البارزة أنه ظل حياته بعيداً عن الغش في أعماله التجارية، فبارك الله في رزقه الحلال، وكان يخرج الزكاة عن أمواله ومرابحه ويوزعها بنفسه على المعوزين من العوائل المستورة وعلى أعزاء قوم نكبهم الدهر بالقلة والحرمان، وكان المدرِّس الألمعي في المذهب الشافعي في جامع خالد بن الوليد، واستفاد من علمه الكثيرون، وتخرج على يديه علماء أفادوا المجتمع بعلومهم وفضائلهم.
شعره وفنه: كان رحمه الله أديباً وخطيباً فناناً بسحر منطقه وقوة بيانه، وشاعراً بليغاً في نسخ القوافي على أبدع منوال، عليه رونق الفصاحة يقطر كالمزن، يتسم بالطابع الصوفي التأملي، ذا صوت بديع، متفنناً في علم النغمة والأوزان، متقناً حفظ ألحان النابلسي واليافي والجندي، انتهج نسق الشاعر الشيخ أمين الجندي في نظم القدود والموشحات البديعة.
لم أعثر على مقطوعات شعره الكثيرة وموشحاته القوية إلا على بعض منظومات متناثرة، منها موشح من نغمة الماهور مدح به حاكم حمص الشهيد والمرحوم حسين بن عثمان الجندي، وكان صديقاً وفيًّا لولده المرحوم الحسين الثاني، فأشار بمدحه تقرُّباً إليه فقال:
ظبي النقا حالي العقد | نعمان ورد الخد |
سباني رماني | بسيف لحظ كالهندي |
عزاني كواني | بنار روضات الخد |
زكي أصيل ذو وقار | من نسل سيد المختار |
حسيب نسيب | سادت به كل الأقطار |
شريف منيف | هو (الحسين) بن الجندي |
ولما توفي صديقه المرحوم الحسين الثاني رثاه بقصيدة مؤثرة منها قوله:
حارت الألباب فينا | عند أوقات الوداع |
سكبت عيني دماء | بت ليلي بانخضاع |
ولما تولى العلامة المرحوم حافظ بن عبد الرحمن الجندي منصب الإفتاء في حمص كان يلازم مجلسه العلمي ومدحه بقصيدة رائعة مطلعها:
سعد الزمان وقامت الأفراح | وبدا الأمان وزالت الأتراح |
هو حافظ الآداب در المنتقى | ميزان حق للندى مفتاح |
ومن طرائف نوادره في الغزل الارتجالي أنه دخل إلى الجامع فرأى فتى يتوضأ فتنهد وكأنه استمد من فترة التنهد الوحي والإلهام فجادت قريحته بوصف بديع فقال:
تبدى للوضوء فبان منه | عواميد كما البللور لاحت |
فقلت له توضأ ثم صلي | على روحي فإن الروح راحت |
كان فرداً بين أهل العلم والتقوى، ظهر في الناس ظهور البدر في تمامه، له شأن وهيبة وقدر وحرمة، كانت ربوع العاصي ومناظرها الطبيعية الخلابة قرة عينه، فكم شهدت ضفافه الفاتنة حفلات زاهرة تضم الشعراء والفنانين أمثال زين الدين الكبير والجلبي والشاويش وعبارة والقصير والملوحي ومصطفى عثمان، وكان المترجم أستاذهم الأكبر في الفن الموسيقي. كان المرحوم الشاعر الهلالي الحموي على اتصال وثيق مع المترجم من الناحية الشعرية والفنية فقط وإن اختلفا في نهج الحياة الخاصة ويشكو له معارضة الشيخ مصطفى زين الدين الحمصي لأشعاره وقلب قوافيها على الأكل، وتوسل إليه باعتباره صديقه ويستطيع التأثير عليه أن يكف عن معارضته، ولكن أنى له ذلك ووفود الحمويين كانت تروح وتغدو بين حمص وحماة وتنقل للشيخ مصطفى زين الدين قصائد الهلالي مع الهدايا المغرية لمعارضتها بإلحاح، ويطربون لهذه المعارضة ويعملون شتى الوسائل لإضرام نارها كلما خمدت، والحقيقة التي كانت لا مرية فيها أن هذه المعارضة كانت نادرة بطرائفها وحوادثها لوقوعها بين شاعرين فحلين، ولم يقع مثلها في تاريخ الأدب والشعر.
رحلاته: لقد طاف البلاد المصرية مستطلعاً متفرجاً وكانت تربطه مع العلامة المرحوم خالد الأتاسي عرى المودة والصداقة ويأنس بمنادمته ومعاشرته فترافقا إلى الحجاز وقاما بأداء فريضة الحج ثم عادا سوية إلى حمص.
وفاته: وفي عام 1898 ميلادية قبضت يد المنون القاهرة روحه الطاهرة ودفن في مقبرة عائلته، وأنجب ثلاثة ذكور، وهم الشيخ عبد المتعال وأبو النصر وطيب، وانتقلوا إلى رحمة ربهم وهم في سن الكهولة، رحمهم الله وأسكنهم فسيح جنانه.
* * *