طانيوس عبده
طانيوس عبده([1])
(1866 ـ 1932م)
لم يعرف الأدب أديباً وشاعراً في الشرق شغل المطابع في الربع الذي انصرم عن القرن العشرين بقدر ما شغلها طانيوس عبده، لقد أنشأ في الصحف والمجلات نبذاً لا تحصى ولا تعد، وأصدر الشرق صحيفة يومية، فكان يدبج فيها المقالات الرئيسية ويكتب الأخبار المحلية ويترجم الأنباء البرقية، ونشر (الرواي) مجلة أسبوعية وطبع من الروايات والقصص بين مترجم ومقتبس ما يناهز السبع مئة، حتى لتؤلف مكتبة عامرة، وكان أغنى كتاب عصره إنتاجاً، وكانت رواياته أوفر الروايات انتشاراً وأكثرها رواجاً، ولا عجب أن يجد القارئ الغث والسمين عند من تعد مؤلفاته بالمئين.
مؤلفاته: ولد المترجم في بيروت وأكد الذين عرفوه أنه دخل في القعد السابع من عمره فتكون ولادته سنة 1866م على وجه التقدير، رحل إلى مصر فأقام فيها ينقل ويترجم مؤلفاته الكثيرة، وقد أكسبته رواياته شهرة بعيدة بين قراء العربية، وأنزله شعره منزلة كريمة بين أماثل الشعراء.
نكبته: وشاء القدر أن يهجر هذا الروائي القصصي مصر إلى لبنان قبيل الحرب يوم كان في إبان نضوجه الأدبي، واندلعت نار الحرب العالمية الأولى فطلب إلى الجندية الإجبارية، وبعد وساطات استخدم في مستشفى (النقاهة) الواقع في حي الجميزة، وصافى قواده، وامتلك عطفهم بما فطر من رقة وكياسة وإيناس.
وكان مولعاً بالخمرة، لا تأتيه النشوة وتجود قريحته إلا بعد قرع الكؤوس، وكان قائده في المستشفى المذكور متعصباً لدينه، فدعاه ونصحه أن يكف عن شرب الخمرة فوعده، ولكنه أخلف، لأن روحه كانت تهفو إلى الكأس، ودستوره في الحياة (ولا خير في الدنيا لمن عاش صاحياً) وأحس به القائد فهدده بإرساله إلى جبهة الحرب إذا عاد إلى الإخلاف، على أنه لم يقو على كبح جماحه، فاغتاظ منه وساقه إلى دمشق لإرساله إلى جبهة ترعة السويس.
هربه من الجندية: لقد كان على المترجم أن يحمل وينتظم في صفوف الجيش لمقاتلة العدو، ولكنه هرب من دمشق وأخذ طريق البقاع إلى زحلة، وفيها قبض عليه وأعيد إلى الجيش، فنكص وليس لمثله أن يغزو، فقد كان ممثلاً يجيد الوقوف على مدارج التمثيل في جبروت الأبطال، ولكن على ملاعب التمثيل لا في ساحات الوغى، وكان قريع الكؤوس بين الحسان الغيد وناظم قوافي القريض، لا قريع الحروب والضرب والطعان، ثم لاذ بلبنان، واقتفى خطوه الباحثون عنه، فقادوه إلى الثكنات ومنها هرب، وهكذا على ست مرات.
وحكم جمال باشا بالموت على كل جندي يهرب عمداً على ست مرات متوالية، فاعتقل في السجن لتقوده في الصباح قوة من الجند إلى حبل المشنقة في دمشق.
ساعة الوداع: واقتربت منيته، فدعا إليه أولاده وزوجته للوداع الأخير، فانخلعت الأفئدة، وبين البكاء والقلق الأليم راجعت زوجته الأستاذ محمد الباقر صاحب جريدة البلاغ، وكان صديقاً صفيًّا لجمال باشا والوالي عزمي بك، وقد تلظت فيه نخوة السماحة والحمية، فاستحصل من ديوان الوالي على وثيقة تشعر بأن طانيوس عبده يشتغل في جريدة البلاغ، وقد تمكن بنفوذه الواسع من إنقاذه من المشنقة، وخلع الكسوة العسكرية وانقطع عن الجيش للاشتغال في تحرير حقل خاص في جريدة البلاغ.
شـعره: كـان شاعـراً متفنناً وثائـراً بليغاً، لطيـف التخيـل عصري المعنى، فديوانه المسمى (ديوان طانيوس عبده) كثير التنويع في مختلف المواضيع، نحا فيه جميع مناحي النظم، وضرب في مختلف فنون الشعر غزلاً وتشبيباً، هجواً ومديحاً، رثاءً وفخراً، حكماً ووصفاً، نكتاً وقصصاً، وأكثر جولاته في الخمريات، وإذا صح أن السكر يزيد أخلاق المرء ظهوراً فاسمعه يقول:
هي الدنيا كصهباء الخوابي | تجلت في الكؤوس لمن يذوق |
فإن تسكر فكل العيش نور | وبعد الصحو فالنور الحريق |
فعالج ما شكوت بها إذا ما | أردت البرء من يأس سحيق |
وأدمنها معتقة طهوراً | فخير الأصدقاء هو العتيق |
ومن طلب الخلود وكان مثلي | فليس لخلده إلا الرفيق |
كان يحب الحياة فأفتر له ثغرها مراراً عن كل ما يسر، غير أنه ازدرى الحياة لأنه مني بجفوة الأيام وأعراضها، فعرف أن الدنيا تسر، ولكنها تغر وتمر.
ومن قوله في تهنئة وقد ملك اليأس شعوره:
وقد تدمع العينان من فرح وما | أحيلى بكاء العين إن ضحك القلب |
وكتب تحت صورته هذه الأبيات وهي تعبر عن مدى انقباضه في الحياة:
هذه صورتي تراها فقل ما | شئت فيها فإنها لا تراكا |
لا يرعك انقباض وجهي فقد كا | ن بشوشاً من قبل أن يلقاكا |
إنما أدركته حرفة قوم | كتب الله أن يكونوا كذاكا |
وله في الغزل قصائد رائعة في معناها ومغزاها. ومن قوله:
أتيت فألفيتها ساهرة | وقد حملت رأسها باليدين |
وفي صدرها زهرة ناضرة | رأيت بأطرافها دمعتين |
وقد وقفت دمعة حائرة | على خدها مثل ذوب اللجين |
فقلت علامَ البكاء والحزن | وكيف تبدل ذا الابتسام |
فقالت هو الدهر لا يؤتمن | وفي قوسه منزع للسهام |
وقد أهدى ديوانه الشعري إلى صديقه الوفي السيد عبد الله كزبر إرضاء لضميره لا التماساً للحمد والشكران.
وفاته: وفي سنة 1932م وافته المنية، فحركت وفاته أوتار الحزن في نفس شاعر القطرين المرحوم خليل مطران فسال دمعه، ورثاه بقصيدة بليغة طويلة.
* * *