جاري التحميل

عائشة عصمت التيمورية

الأعلام

عائشة عصمت التيمورية([1])

(1840 ـ 1902م)

هي الشاعرة المصرية عائشة عصمت التيمورية، التي برقت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في وقت ساد فيه ظلام الجهل، وحيل بين المرأة خاصة وبين نور العلم والمعرفة فأعادت إلى الأذهان ذكر المشهورات في تاريخ العرب والإسلام، كالخنساء، وليلى الأخيلية، وعلية بنت المهدي، وولادة، وحمدونة الأندلسية، وأم البنين وغيرهن.

مولدها: ولدت شاعرة مصر سنة 1840م وهي كريمة إسماعيل تيمور باشا، وهو من أصل كردي لأبيه تركي لأمه، وهي أخت العلامة المرحوم أحمد تيمور باشا، ونستطيع أن نتبين من تاريخ عائشة أن الفضل الأكبر في تكوينها أديبة وشاعرة يرجع ذلك إلى الوالد الفاضل، فقد وجهها الوجهة التي مالت إليها وشجعها على سلوك الطريق التي رغبت فيها، إذ أبت أن تحيا حياة مثيلاتها من بنات القصر في ذلك العصر، ورغبت في التزود من العلوم والآداب، ووقعت من جراء هذه الرغبة في صراع بين ما تصبوا إليه وما تريده لها أمها من تعلم التطريز وأشغال الإبرة وسائر الأعمال النسوية، وكانت الأم ترى في تشبث ابنتها بالكتب والقراءة شذوذاً لا يليق بفتاة... فنشب بينهما جدال ظل يتتابع حتى قطعه الوالد الحصيف بقوله لزوجته «دعيها فإن ميلها إلى القراءة أقرب».

بدء تعليمها: رتب لها والدها الأساتذة لتعليمها اللغات الفارسية والعربية والتركية، وجعلت عائشة تقرأ دواوين الشعراء وتعالج النظم بالأوزان السهلة، وكانت تنظم الشعر باللغات الثلاث العربية والتركية والفارسية وكانت تسمع أباها ما تنظمه فيثني عليها ويشجعها.

زواجها: تزوجت الشاعرة من السيد محمود الإسلامبولي سنة 1854م فشغلها بيتها وزوجها عن مواصلة التحصيل والنظم وخاصة بعد أن رزقت بأولاد، فلما كبرت ابنتها (توحيدة) ألقت إليها بعبء المنزل واستأنفت حياة الدرس والمطالعة ونظم الشعر باللغات الثلاث، وتوفي زوجها بعد والدها فزاد فراغها للشعر والأدب، وكانت الشاعرة تحب ابنتها توحيدة حبًّا جمًّا، ولما كبرت عمدت إلى خدمة أمها وأبيها ومباشرتها إدارة المنزل ومن فيه من الخدم والأتباع.

مصائبها: توالت عليها المصائب فتوفي والدها في سنة 1872م ولم تكد تجف دمعتها حتى فجعت بفقد زوجها في سنة 1874م.

وشاء القدر أن تفجع الشاعرة في ابنتها وروح أنسها؛ فماتت توحيدة وهي في ريعان الصبا في الثامنة عشرة من عمرها سنة 1877م فتمزق كبدها حزناً عليها واستعرت حرقة فؤادها في المرثية الرائعة التي بكتها فيها أحر بكاء، فتقول في قصيدة طويلة نقتطف منها بعض أبياتها:

إن سال من غرب العيون بحور

والدهر باغ والزمان غدور

فلكل عين حق مدرار الدما

وبكل قلب لوعة وثبور

وتصف فيها مشهد احتضار الفتاة فتقول:

جاء الطبيب ضحى وبشر بالشفا

إن الطبيب بطبه مغرور

لما رأت يأس الطبيب وعجزه

قالت ودمع المقلتين غزير

أماه قد كل الطبيب وفاتني

مما أؤمل في الحياة نصير

لو جاء (عراف اليمامة) يبتغي

برئي لرد الطرف وهو حسير

أماه قد عزَّ اللقاء وفي غد

سترين نعشي كالعروس يسير

قولي لرب اللحد رفقاً بابنتي

جاءت عروساً ساقها التقدير

وتجلدي بإزاء لحدي برهة

فتراك روح ساقها المقدور

أماه قد سلفت لنا أمنية

يا حسنها لو ساقها التيسير

صوني جهاز العرس تذكاراً فلي

قد كان منه إلى الزفاف سرور

أماه لا تنسي بحق بنوتي

قبري لئلا يحزن المقبور

فأجبتها والدمع يحبس مقلتي

والدهر من بعد الجوار يجور

قد كنت لا أرضى التباعد برهة

كيف التصبر والبعاد دهور

ولهي على (توحيدة) الحسن التي

قد غاب بدر جمالها المستور

وختمت القصيدة فأرخت تاريخ الوفاة:

ولك الهناء فصدق تاريخي بدا


توحيدة زفَّتْ ومعها الحور

1294

وقد ساءت حالها بعد ذلك وضعف بصرها وطال حزنها، حتى ألح عليها أولادها أن تشفق على نفسها، فسرَّت عن نفسها بعض الشيء وأستأنفت نشاطها الأدبي، ولكن المرض ألح عليها واستمر أربع سنين انتهت بوفاتها، ويظهر أنها عانت كثيراً من الأطباء الذين لم يجدها علاجهم، فكانت كثيرة الترديد ليأسها منهم، وكانت أحياناً تتهكم عليهم، من ذلك قولها:

يا من أتى للجسم يبرئ سقمه

ويظن جالينوس بعض عبيده

أفنيت بالطب الذي تهدي به

أمماً وقرَّبت الردى ببعيده

وزعمت أنك بالدوا جددته

ولقد أضعت قديمه بجديده

شعرها: وتجد في شعر التيمورية كثيراً من شعر المناسبات والمجاملات، فهو يصور مبلغ قدرة الشاعرة على صناعة القريض من مقامات لا تستوحي فيها عاطفتها ولا تستجيب لنوازع نفسها، ومن العجيب أن شعرها الغزلي يستغرق مئة قطعة أو قصيدة في مجموع أشعارها التي تبلغ عدة قصائدها ومقطعاتها عشرين ومئتين، على حين أنها على حد قولها في مقدمة قصيدة: (وقلت متغزلة في غير إنسان والقصد تمرين اللسان)، ولو كان غزلها حقيقيًّا لما باحت بحرف منه في عصرها المتوقر وبيئتها المتحجبة ومكانتها المصونة، ولكنها تصطنع الغزل وتمارسه، وربما كان أنسها به وإيغالها فيه لأنها رأت فيه مجالاً للتنفس ولإظهار العاطفة المكبوتة التي لا تجد السبيل إلى الانطلاق، فإن في شعرها الغزلي رقة، وفيه نبضات، ويبدو أنها عوتبت في هذا الغزل فهي تقول:

تركت الحب لا عن عجز طول

ولا عن لوم واش أو رقيب

ولا من روع زفرات التصابي

ولا من خوف أجفان الحبيب

ولا حذر الفراق وخوف هجر

به تجري المدامع كالصبيب

ولكني اصطفيت عفاف نفسي

تقر بصفوة عين الأريب

وذاك لأنني في عصر قوم

به التهذيب كالأمر العجيب

وأما شعر التيمورية الصادق الوحي فهو قصائدها في رثاء من فقدتهم من أهلها وخاصة ابنتها «توحيدة» وفي شكواها من الرمد الذي كاد يذهب ببصرها.

وقالت في محاكاة قصيدة (البردة) المشهورة للبوصيري:

أعن وميض سرى في حندس الظلم

أم نسمة هاجت الأشواق من (أضم)

فجددت لي عهداً بالغرام مضى

وشاقني نحو أحبابي «بذي سلم»

وفي القصيدة تقول:

إني رددت عناني عن غوايته

وقلت يا نفس خلي باعث الندم

ولذت بالمصطفى رب الشفاعة إذ

يدعو المنادي فتحيا الناس من رجم

طه الذي كللت أنوار سنَّته

تيجان أمته فضلاً على الأمم

نعم الحبيب الذي منَّ القريب به

وهو القريب لراجي المجد والنعم

روحي الفداء ومن لي أن أكون له

هذا الفداء وموجودي كمنعدم

وقد ظهر ديوان التيمورية العربي منذ أكثر من نصف قرن ويسمى (حلية الطراز) ثم طوته الأيام، فلم تبق منه إلا ذكرى تهز النفس وصدى يعير السمع، وأخيراً عنيت لجنة نشر المؤلفات التيمورية التي يرأسها الأستاذ خليل ثابت بإخراج ديوان عائشة التيمورية حافلاً مستكملاً ما كان مخطوطاً من القصائد، وقد قام بتحقيقه وضبطه الأستاذ محمد شوقي أمين، ولولدها السيد محمود الفضل بنشر تراثها الأدبي.

مؤلفاتها: لقد أخرجت ديوان شعر باللغتين التركية والفارسية وعنوانه (شكوفة) وقد طبع بالأستانة سنة 1894م وديوان عربي (حلية الطراز) وقد طبع مرتين سنة 1885م و1892م وللشاعرة نثر جيد وإن كان يجري على قاعدة السجع ومحاكاة أسلوب المقامات، وألفت كتاب الأحوال في الأقوال والأفعال، ضمنتـه قصصـاً وحكايـات فـي أحـوال الناس مستعينة فيه بما قرأته في التاريخ وما سمعته من حكمة العجائز وما قر في ذهنها من تجاربها في الحياة، ولها كتاب (مـرآة التأمـل فـي الأمور) عالجت فيـه بعض الموضوعات الاجتماعية بأسلوب قصصي، وألفت بعض روايات تمثيلية، وكانت تكتب مقالات وتنشرها في الصحف التي كانت تصدر في عصرها كجريدة (المؤيد) وجهت فيها اللوم إلى المرأة على مبالغتها فـي الزينـة دون الانتباه إلى واجباتهـا وهـي تـرى في ذلك مبعث الخلل والفساد.

وقد دعت التيمورية إلى مشاركة المرأة للرجل في الأعمال وألقت المسؤولية في تأخرها على الرجل، وقد سبقت في هذا من جاء بعدها من أصحاب الدعوة إلى مشاركة المرأة للرجل.

وهي أول سيدة مصرية ألقت الحجاب وسفرت، ولكنها لم تكن تسفر إلا في حضرة العلماء وكبار أدباء زمانها وصفوة شعرائه، وإذا توخينا الدقة فإنها كانت تخلع الحجاب داخل قصرها وتستبقيه إذا خرجت به وفوق أنها كانت شاعرة فإنها أدارت ثروة طائلة بمنتهى الكفاية والتوفيق، فالعجب من هذه الأرستوقراطية التي جمعت بين الشعر والأمومة والزوجية والإدارة الحازمة.

وفاتها: انتقلت إلى عالم الخلود في الخامس والعشرين من شهر أيار سنة 1902م وشيعت جنازتها بعد الظهر ودفنت بمقبرة الأسرة، وتبارى الشعراء والأدباء في تأبينها، وهكذا سيبقى لاسم هذه الشاعرة شرف السبق إلى نور المعرفة واقتطاف أزاهير الأدب في عصر تعذرت فيه الوسائل.

*  *  *

 



([1] (أ) (2/ 525 ـ 528).

الأعلام