جاري التحميل

عاصي ومنصور رحباني

الأعلام

عاصي ومنصور رحباني([1])

عبقرية الأخوين رحباني الفنية

في عبقريتهما سر مكنون، وفي نبوغهما سحر وشجون، تطاول مجدهما الفني على الثريا وهما في ربيع العمر والصبا شقيقان حبيبان، هما للمجتمع بلسم القلوب وفتنة الأسماع وقرة العيون، هما شمس وقمر، آيتان باهرتان في سماء الفن، ولولا الفن لما التقيا ﴿ﳃﳄﳅﳆﳇ ﳈ ﳉ ﴾ صدق الله العظيم.

عينان تتقدان بالذكاء الفطري اللماح، وفن أصيل زاخر في قلبين طافحين بالنبوغ والإحساس المرهف.

يسعدني وأنا كثير الزهو والفخر بمواهب الأخوين رحباني أن ألمع بأن العبقرية مشاعة بين البشر ولا يحق لبلد أو لأمة الاستئثار بها، فهي هبة أنعم الله بها على الناس لتسعد البشرية بفنون ذوي النبوغ، وأن أقدم لمحة موجزة عن حياتهما الفنية بعد أن تجلت آيات مواهبهما في ميدان الفن.

أما إنتاجهما الفني الغزير الذي امتلأت به صفحات مجلات الإذاعات الشرقية فغني عن البيان وسفاسف الدعاية والإعلان.

شمس الفنون: هو عاصي بن المرحوم حنا بن عاصي الرحباني ولد سنة 1923م في بلدة انطلياس.

قمر الفنون: شقيقه منصور الرحباني، ولد سنة 1925م، وأصل هذه الأسرة من بلدة انطلياس في لبنان تلقيا دروسهما في مدرسة انطلياس التي كان يديرها الأستاذ فريد (أبو فاضل).

كان والدهما رحمه الله يعزف في ساعات فراغه على آلة البزق بعض الأنغام الشرقية القديمة قأحبا هوايته، وليت حياته امتدت إلى الآن ليشهد نبوغ ولديه وكيف ورثا سجاياه المثالية.

الدراسة الفنية البدائية: لقد أسعدهما الحظ فتلقيا عن الأب الفاضل بولس الأشقر الذي كان يعلم الموسيقى والتراتيل في كنيسة مار إلياس في انطلياس علم النوطة الموسيقية، ووجههما لدارسة المراجع الموسيقية كالرسالة الشهابية لمؤلفهما المرحوم الدكتور ميخائيل مشاقة وكتاب الموسيقى الشرقي للمرحوم الموسيقار كامل الخلعي المصري. وحبذا لو أحاطا علماً بالمرجع الفني الأصل وهو كتابفلسفة الموسيقى الشرقية لمؤلفه الشاعر العبقري المتفنن الأستاذ ميشيل الله ويردي.

مراحل الدراسة الفنية: وبرزت مواهب الأخوين اللامعين فتعلما الهارموني والكونتربوان والفوج على الأستاذ (برتران بيار) الأستاذ الأكاديمي للفنون الجميلة، وداوما على أخذ دروس خاصة مدة ست سنوات، وتعلما التحليل الموسيقي والتوزيع الآلي (أوركستراسيون) على الأستاذ توفيق سكر المتخرج من معهد باريس العالي وهو يحمل شهادة في الفن الموسيقي، وتلقيا تمارين عملية في التكتيك الآلي على الأستاذ (ميشيل بورديتس) وهو قائد فرقة موسيقة إسبانية.

نشاط الأخوين الفني: وتجلى نبوغ الأخوين الفني، وإذا بنشاطهما المثالي في حقل الفن والإنتاج لا يقف عند غاية، ولو أردت التعبير عن مدى هذا النشاط الناضج فلا أبالغ في الوصف بأنه قد تخطى سرعة الصاروخ الذري إلى قمة المجد، وهمـا لـم يتخطيا بعـد شرخ الشباب، فما هي عظمة هذا الإنتاج الفني بعد سنين يا ترى؟ أما جبروت هذا النشاط فيتشعب في نواح بارزة لها علاقتها بالنهوض في الموسيقى الشرقية إلى أعظم مستوى يتلاءم ومجد الشرق وطارفه الفني التليد، ويتلخص فيما يلي:

«تعريب القطع الغربية الناجحة» و«تأليف موسيقى راقصة شرقية» و«الأناشيد المتنوعة» والأدوار والموشحات ومحاولة تطويرها إلى أرقى مما هي عليه لإبرازها بشكل عالمي يعطي فكرة صادقة عن عظمة الفن الشرقي.

الاسكتش: وهو لون جميل من الألحان قد يكون المرحلة الأولى للأوبرا الإذاعية، وقد سجلا الكثير من أنواعه البديعة، وأشهر مؤلفاتهما استكتش «ابن هند» وقد سجلته محطة الشرق الأدنى للإذاعة وعزفت الأوركسترا «سانفوني» مع توزيع في الأرباع الصوتية، وقد نجحا في هذه المحاولة الفنية الرائعة.

نوع معالجة الغناء الشعبي البلدي: لقد كان اهتمام الأخوين الرحباني في محاولة تطوير الغناء البلدي موضع إعجاب وتقدير، وأتت جهودهما بأطيب الثمرات والنتائج كقطب «عتاب» التي تغنيها الآنسة فيروز التي طارت شهرتها في الآفاق وهي من إنتاج هذه المحاولات الموفقة.

أهداف الأخوين: لقد وضعا نصب أعينهما السير بالموسيقى الشرقية بناحيتين خطيرتين:

الأولى: الناحية الآلية، وهي تأليف صروح موسيقية تستند على القواعد العالمية للتأليف مع الاحتفاظ بالطابع الشرقي وتوزيع الأنغام العربية ذات الأرباع الصوتية، وهذا عمل غني جبار لم يسبق لأحد من الفنانين أن استطاع الخوض بأبحاثه.

الثانية: الطريقة الغنائية، وهو إيجاد نوع من الأوبرا الغنائية تمتزج مع الإحساس العربي وتتلاءم مع مقتضيات هذا العصر.

شعر الأخوين: لا حد للذكاء في ميدان النبوغ، فقد يكون هنالك مواهب متشعبة في نواح عدة يصعب تحليل أسرارها، فإذا كلفتني أيها القارئ أن أصف لك كنه هذا النبوغ المتشعب فقد كلفتني شططا، ومن تلك المواهب الفذة امتلاك الأخوين نواصي قوافي الشعر، فقد أخرجا إلى المجتمع ديوان شعر أسمياه «سمراءمها» وقد تولت دار الرواد للطبع بدمشق إخراجه ونشره، وفيه ثورة كبرى على أوزان الشعر المألوفة، فقد نظما قوافي الشعر وأخرجا الألحان والأنغام وليدة روح واحدة بانسجام رائع لم يسبق له مثيل في أسلوبه وابتكاره.

وأخرجا تمثيلية شعرية اسمها «غاية الضوء» وهي عبارة عن مغناة شعرية في ثلاثة فصول، وسجلا في محطات الإذاعات بدمشق وبيروت والشرق الأدنى ألحانهما، وأقبل الجمهور يرهف السمع إليها بشغف وطرب وينقلها الأثير بصوت فيروز الساحر.

أما الإنتاج الفني فلا حد له، وكله من الألوان المحببة للقلوب الذي لم يأت بمثله أي فنان عبر ومضى، فليكن جهاد الأخوين رحباني واقتحامهما هذا الميدان الشائك عبرة وذكرى وأسوة حسنة للشباب، فإلى الأمام يا رمز العبقرية والفتنة والخلود.

الآنسة فيروز: واسمها الحقيقي نهاد بنت وديع الحداد، ولدت هذه الفنانة الموهوبة في بيروت سنة 1935م وتلقت علومها في مدرستي سان جوزيف والمعارف اللبنانية والفن الموسيقي اللبناني.

صوتها: إذا وصفت صوتها وشدوها بأنه من النوع المخملي الملائكي النادر كنت على يقين بأني لم أوف صوتها وتأثيره على حواس سامعيه حق الوصف، هذا رأيي الذي يعبر عن شعوري حيال هذه العندليبة الساحرة.

فهذا الثلاثي المؤلف من الأخوين رحباني والآنسة فيروز لا يجاريه في القوة الفنية أي ثلاثي في البلاد العربية.

*  *  *

 



([1] (أ) (1/ 362 ـ 363).

الأعلام