عبد الباسط فتح الله
عبد الباسط فتح الله([1])
(1871 ـ 1929م)
مولده ونشأته: هو العالم العامل والحكيم الاجتماعي المتفنن والإنسان الألمعي الكامل السيد عبد الباسط فتح الله بن حسن بن مصطفى بن فتح الله الشيخ، وأمه سعدى بنت السيد حسن بلوز، وكلا والديه من أسر بيروت القديمة ولنسبهما صلة بأهل البيت النبوي الكريم.
ولد عام 1871م، وتعلم القراءة والخط وأوليات الحساب في مدرسة المرحوم الشيخ حسن البنا، ثم دخل المدرسة السلطانية في بيروت، فتعلم فيها العربية والتركية والإفرنسية وما إليها من الفنون. وكان من أساتذته فيها الإمام المرحوم الشيخ محمد عبده، وعنه أخذ علوم البيان والمنطق والتوحيد والأحكام العدلية (مجلة الأحكام الشرعية). وكانت له به عناية خاصة، فقرأ له في بيته أثناء العطلة المدرسية وليالي رمضان فصولاً من متن التهذيب في علم الكلام، والسيرة النبوية.
ولما اضطرب نظام المدرسة بتدخل السلطة العسكرية في إدارتها، برحها الأستاذ الإمام، فتبعه المترجم ولزم مجلسه حتى أشار عليه بدخول الكلية البطريركية لإتمام ما كان حصله في المدرسة السلطانية من اللغة الإفرنسية والفنون فدخلها، وحضر فيها درس أستاذ اللغة العربية الشيخ إبراهيم اليازجي، ودروس غبطة الحبر العلامة البطريرك ديمتريوس القاضي في الفرنسية والتاريخ القديم، والحكمة الطبيعية، ونال شهادتها العلمية مع جائزة الشرف في العلوم العربية.
حياته العلمية: ولما عهد إلى المرحوم السيد محمد عبد الله بيهم برئاسة المجلس البلدي، دعي المترجم إلى القيام بوظيفة محاسب البلدية، فحمل الوظيفة كرهاً، إلا أنه ما زال ينزع إلى تركها حتى استقال وانضم إلى أخيه الأكبر في أعماله التجارية، ولما نسقت المحاكم تعين بالرأي العام عضواً لمحكمة الاستئناف، فلبث فيها برهة يسيرة.
وكذلك سمي عضواً في الهيئة البلدية، وبعدها وقعت الحرب العالمية الأولى، واشتدت الأزمة التجارية، وعمت الدعوة إلى الجندية، فاضطر لتصفية محله التجاري، وكان قد توفي أخوه، وأصبح مفرداً بغير معاون.
خدمته للعلم: بيد أن مشاغله التجارية والإدارية لم تكن لتمنعه مما يهوى إليه فؤاده من خدمة العلم ونشره، فقد دعاه الأستاذ الشيخ أحمد عباس إلى معاونته على تأسيس مدرسته الشهيرة بالمدرسة العثمانية، فلبى الدعوة ونشط للخدمة إذ وجد فيها متسعاً لتحقيق أمانيه في الإصلاح، وكان يلقي فيها المحاضرات الأدبية، ويعطي الدروس في الجغرافية والطبيعيات والتعريب وعلوم اللغة إلى أن قضت السياسة الطورانية بإقفالها أوائل أيام الحرب.
على أن سعيه نحو غايته من بث العلم لم يكن لينحصر في تعليم البنين وتربيتهم، فقد كان تثقيف البنات والوفاء لهن بحقهن من العلم والتهذيب مناط همه الأكبر، ورغم المصاعب الجمة التي كانت تعترض الساعين في تنوير الأمة أيام السلطان عبد الحميد، فقد توفق مع جماعة من المفكرين المناهضين لتأسيس «جمعية ثمرة الإحسان» بغية تحسين حالة المرأة المسلمة، وأنشؤوا لها مدرسة حوت العدد الجم من البنات.
وانتخب لعضوية (جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية) فأوجد لها نظامها الذي تتمشى عليه من قبل، كما أنه قام بتدريس الديانة والتهذيب للصفوف المؤلفة من البنات المسلمات في المدرسة السورية الأهلية.
أثر قلمه: تراه وهو في غضون تلك الأعمال السابقة يغتنم الفرص لبث الأفكار الصحيحة والمبادئ السليمة، ويلفت الأنظار إلى حقائق الأمور، وتعرف المصلحة العامة والاعتدال في الأخذ بالجديد والمحافظة على القديم.
وله في الإنشاء طريقة خاصة امتاز بها وعرفت به وهي السهل الممتنع، وله مقالات حية أودعها نبضات قلبه كما عمد إلى نقل بعض كتب الإعلام عن اللغة الفرنسية.
وإذا تأملت في مقالاته فإنك تجد رجلاً اجتماعيًّا يخوض في مواضيع شتى بقلمه المتين، وعبارته الأنيقة، وحجته الناصعة.
كان خطيباً بليغاً موفقاً في اختيار الكلمات والتعابير، وإن محاضراته عن «أبي العلاء المعري» وعن التمثيل وفوائده تدل على عظيم مواهبه.
شعره: لقد نظم القريض في مناسبات متعددة، وترك مقطوعات عديدة تتراوح أبياتها بين العشرة والستين بيتاً، نظمها إما للتهنئة أو الوصف أو الفكاهة أو الرثاء.
آثاره: لقد عرب كتاب التدريس العلمي لبول برت الفرنسي، وكتاب فلسفة السياسة لفوستاف لوبون، وكتاب الرين ووستفاليا لجول هوره، وترجم بعض الفصول من كتاب سر تقدم الألمان، وهذة الأربعة لم يتمكن من إتمامها، وقد أتم تعريب رسالة «مسألة النساء» لأرنست لولوفي، وجعل لها مقدمة جليلة.
وله من المكاتبات مع أصدقائه ما لو جمع لأربى على مجلدات، ولا تزال مجموعة رسائله للإمام محمد عبده ورسائل الإمام إليه كنزاً ثميناً يدل على الصداقة الحميمة التي كانت تشدهما إلى بعض، ومن أبرز مزاياه الإنصاف في المناظرة والمحاورة.
لقد كانت حياته كلها علم وعمل، وجهاد وأمل، ودعوة إلى الحق، وثبات وصدق، وصبر واهتمام، وسير حثيث إلى الكمال، ووقوف عند الحدود الشرعية، ودعاء إلى السنة، ونفور من البدع.
وفاته: وفي منتصف يوم الجمعة غرة جمادى الأولى 1348ﻫ و4 تشرين الأول 1929م أجاب دعوة خالقه، ودفن في مقبرة أسرته.
* * *