عبد الباقي العمري الفاروقي
عبد الباقي العمري الفاروقي([1])
(1789 ـ 1862م)
أصله ونشأته: هو المرحوم عبد الباقي بن سليمان بن أحمد بن علي المفتي بن مراد، ولد في الموصل سنة 1789م من خير الكرائم وترعرع في حجر أبيه، ودرس شتى العلوم على أعلام عصره، وفي العشرين من عمره انتدبته حكومة الموصل ليقوم بأعظم شؤونها وتقلد فيها منصب الكتخدانية.
اجتماعه بوالي بغداد: وكان تعيين والي الموصل بإنهاء والي بغداد، فاختار أعيان الموصل المترجم للتوجه إلى داود باشا والي بغداد ليسعى في تولية يحيى باشا والياً على الموصل، وكان داود باشا الوزير القاهر على جانب عظيم من العلم والجبروت، حتى إن وجوه بغداد كانت لا تسطيع مقابلته إلا في يوم الجمعة، فحين استأذنه المترجم بالدخول عليه أجلسه إلى جانبه، وبعد أن شرب القهوة سأله أمنياته ورغائبه فأجابه بهذين البيتين وفيهما المضمون:
يا مليك البلاد منيتي حا | شاك مثلي يعود منك كسيرا |
أنت هارون وقته ورجائي | أن أرى في حماك يحيى وزيرا |
فاستحسن الوالي قوله وأمر بتحرير الإنهاء.
عصيان داوود باشا: وبعد أعوام شق داوود باشا والي بغداد الطاعة على السلطان محمود خان، وكان في ذلك الوقت قاسم باشا الفاروقي وهو ابن عم صاحب الترجمة والياً على الموصل، فأتاه الأمر بتجهيز الجند والمسير إلى بغداد وفتحها والقبض على المماليك والوالي داود باشا، وسار قاسم باشا إلى بغداد وبصحبته المترجم، وطلب إلى المماليك تسليم داود باشا فأذعنوا، فسار إليهم نفر قليل من الجند، فغدروا وهجموا على عسكر الموصل، فاقتتل الفريقان وأسفرت المعركة بفوز قاسم باشا واستسلام الثائرين، ثم عين اللاظ علي باشا والياً على بغداد، فلما وصل الموصل استصحب المترجم معه للاستفادة من فضلة وعلمه، فولاه منصب الكتخدانية، فكان تارة يشتغل بوظائف الحكومة و[تارة] يقلد جيد الدهر في نظمه ونثره عقود اللآلي، حتى فاق على بلغاء العراق وأدبائه وخطبائه.
وانتدبته الحكومة لإخماد القتال الذي دار بين قبيلتي (الزكرت والشمرت) فتوجه إليهما بقوة كبيرة من الجند وحقق الله أمنيته وسكنت الفتنة.
تآليفه: من تآليفه ديوانه المسمى بـ (الترياق الفاروقي) وديوان (آهلة الأفكار في مغاني الابتكار) و(نزهة الدهر في تراجم فضلاء العصر) ولما قبض على داود باشا لتسفيره للأستانة، وصادف عزم المترجم بالتوجه إلى الموصل، رافق الباشا المشار إليه والمحافظين عليه، وكان محمولاً على بغلة فعثرت به، فقال المترجم بداهة: (عدس) فاستبشر داوود باشا وتفاءل خيراً بعد أن تذكر البيت المشهور:
عدس ما لعباد عليك إمارة | أمنت وهذا تحملين طليق |
فتعجب الوالي الثائر من سرعة خاطر المترجم وعلمها مقصودة منه، فشكر له هذا الفأل الحسن المزيل عن القلب الحزن، وكان كما أشار حيث عفي عنه.
شعره: اشتهر رحمه الله بالغوص في بحار القوافي مفتشاً عن أصداف الفرائد في عبابها، وبخوض غمار الاستغراق مستخرجاً لتنظم القلائد من لؤلؤها ومرجانها، ويفتش عن المعاني الدقيقة ليرصع بها كلماته الرشيقة.
ومن شعره الرصين البديع تخميسه القصيدة الهمزية المشهورة حيث قال:
لعلا الرسل عن علاك انطواء | وأولو العزم تحت شأوك جاؤوا |
ولمرقاك دانت الأصفياء | كيف ترقى رقيك الأنبياء |
يا سماء ما طاولتها سماء | |
خبر المبتدأ لهم عنك صحّا | حيث للعرض جئت ختماً وصحا |
فالنبييون والذي لك أوحى | لم يساووك في علاك وقدحا |
لسنا منك دونهم وسناء |
وقرض علامة عصره الشاعر المرحوم عبد الله العمري الموصلي هذه القصيدة فقال:
فزت بالفخر أيها الزوراء | ولك المجد والعلا والهناء |
فيك برج الكمال أطلع بدراً | خفيت عند ضوئه الأضواء |
ومنها:
ذاك عبد الباقي الذي قد تباهت | بعلاه الأبناء والآباء |
وقال فيها الشاعر الأديب المرحوم محمد أمين العمري:
إن هذا التخميس صنع بليغ | عجزت عن صنعه البلغاء |
كل بيت من ذا القصيدة ازدا | ن كما ازدان بالنجوم السماء |
ومن غزله البديع قوله:
بروحي غريراً بالرصافة قلبه | لدى ظبية لمياء خلفته رهنا |
وقالبه بالكرخ علم أهله | فنون جنون وهو في غيرهم جنا |
له في الهوى العذري عذر إذا لوى | لبان الهوى عطفاً وحن إلى المغنى |
ومنها:
يميت ويحيي هجره ووصاله | فلي قربه أبقي ولي بعده أفنى |
نحوراً بلا عقد كؤوس بلا طلا | جسوماً بلا روح حروفاً بلا معنى |
وخمس القصيدة الشهيرة المنسوبة للسموأل بن عاديا في الحماسة فقال:
لمجدي حمى لا ينبت اللؤم روضه | ولا وطنت في أخمص اللؤم أرضه |
فقلت وفضفاضي تسلسل حوضه | إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه |
فكل رداء يرتديه جميل | |
ولي نفس حرٍّ تمنع العين نومها | وتعتاد عما يوجب الذم صومها |
وليس الفتى إلا من اعتاد لومها | وإن هو لم يحمل عن النفس ضيمها |
فليس إلى حسن الثناء سبيل | |
يعدُّ بألف من شيوخ وليدنا | أجل وبمن تحت السماوات صيدنا |
ومذ جهلت أن الأنام عبيدنا | تعيرنا أنَّا قليل عديدنا |
فقلت لها إن الكرام قليل |
وفاته: رحل إلى عالم الخلود في بغداد سنة 1278ﻫ 1862م وكأنه أوتي علم الغيب، فأرخ بنفسه عام وفاته قبل وفاته بسنين، وهذا نص التاريخ المكتوب على قبره:
بلسان يوحد الله أرخ | ذاق كأس المنون عبد الباقي |
1278ﻫ
ورثاه ناصيف اليازجي وولده إبراهيم، كل واحد بمرثية بليغة، فأجابهما ولده سليمان بهذين البيتين وكان شاعراً مجيداً:
أبَّنتما لا بنتما سيداً | نحن إلى تأبينه نحنو |
لو لم تكن قدسية روحه | لما رثاه الأب والابن |
وتفرع عنه أعيان كرام، ووجوه أعلام، تسلموا أعلى مراتب في الدولة، فأنجب سليمان وحسين حسني ومحمد وجيهي وعلي.
* * *