جاري التحميل

عبد الحميد الديب

الأعلام

عبد الحميد الديب([1])

(1897م) ـ مجهول

لقد تعذر علينا معرفة تاريخي ولادة ووفاة الشاعر البائس عبد الحميد الديب، وقد أكد الذين عرفوه أنه دخل العقد الرابع من عمره، فتكون ولادته في سنة 1897م على وجه التقدير، وهو صنو الشاعر إمام العبد في البؤس والحرمان، وكلاهما شاعر ملهم يصوغ خواطره وأشجانه مستلهماً واقع حياته، فتأتي قصائده حارة ملتاعة تنطق بالكآبة، وتتسم باللوعة والقنوط، وكلا الشاعرين كانا مجالًا للفكاهة والتندر، وقد اضطر إلى التجارة بالشعر، فكان يكتب القصيدة في أي موضوع يملى عليه ويبيعها إلى المتشاعرين نظير مبلغ خاص يرتزق به، ثم تنتشر في الصحف بعد ذلك ممهورة باسم المشتري المحتال.

وكلا الشاعرين دميم الخلقة، عبوس الوجه، ممزق الثوب، يحمل رائيه على السخرية والعبث به، نشأ عبد الحميد في ظل أسرة متوسطة بإحدى قرى المنوفية كان عائلها يتاجر في القطن، فأصاب ربحاً جزيلاً منه، ثم عصف به سوء الحظ فتحول إلى المتربة والإدقاع، ونقل المترجم معه في حالتيه، فرفل في مطارف النعمة والسعادة حيناً، ثم احترق في لهيب الفاقة والحرمان حيناً آخر، وقد كان هذا التناقض المفاجئ في حياته ذا أثر هام في شخصيته، فقد أورثه تناقضاً ملحوظاً في طباعه، فكان سريع الغضب والرضا معاً، يتفاءل ويتشاءم، ويلحد ويستغفر.

فإذا نشأ إمام العبد في جيل لا يشجع الأدب والأدباء، وسدت أمامه سبل العيش، ولم يجد الأدب متجراً رابحاً يدر على الربح والمال، إلا أن عبد الحميد نشأ في جيل يختلف عن جيل صاحبه، فقد كثر عشاق الأدب والصحافة، وأصبحالأدباء يرتزقون بثمرات أفكارهم وأسلات أقلامهم، وكان لا يتحرج من أية وسيلة للاستفادة المادية ولا يتورع عن أي شتم، ولم ينج من هجوه أحد ممن عرفه سواء أعطاه أم منعه، فقد قدَّر المجتمع المصري الشاعر وفتح له أبواب الرزق فسدها بيديه، واصطنع البؤس اصطناعاً، وكان في مكنته أن ينعم بالمال والسعادة لو سلك الطريق القويم، فعلى الناعين على الوطن إهماله وجحوده أن يلتمسوا المثال في غير الديب، كأن يلتمسوه مثلاً في الشاعر إمام العبد الذي نشأ في جيل غير جيل عبد الحميد، فكابد من الجوع والحرمان ما أورثه التعاسة والشقاء.

ويرى البعض أن الديب كان ملتاث العقل، لا يعي ما يصنع، يهيم على وجهه في الليالي الباردة ولا يدري أين يذهب.

وقد قضى شهوراً مريرة في السجن تكتنفه الظلمات، ويحاور السفلة من المجرمين والأوغاد، ويقول عنهم في حنق وأسف:

بنو آدم من حولنا أم عقارب

لها في الحشا قبل الجسوم دبيب

لقد كنت فيهم يوسف السجن صالحاً

أفسِّر أحلاماً لهم وأصيب

ولو كان الديب يصنع البؤس عامداً ما قطع الليالي الباردة في زمهرير الشتاء هائماً في الطرقات حتى إذا فتحت المساجد أبوابها التجأ إليها، ويجد نفسه مدفوعاً إلى الصلاة بدون رغبة سابقة فيقول:

إذا أذنوا للفجر قمت مسارعاً

إلى مسجد فيه أصلي وأركع

أصلي بوجدان المرائي وقلبه

وبئست صلاة يحتويها التصنع

لو كان الديب يصنع البؤس عامداً ما ترك دار العلوم دون أن يتم سنواتها الدراسـية، ولكنـه ذو عقـل ملتـاث، وأمثالـه كثيرون ممن تضج بمآسيهم الحياة ولا يجدون الراحة في غير المقابر الحالكة، وهو القائل في ذلك:

جوارك يا ربي لمثلي راحة

فخذني إلى النيران لا جنة الخلد

ولم يكن جنون الديب دائماً، بل كان متقطعاً يواتيه الفينة بعد الفينة، وبذلك استطاع أن ينظم الشعر الرائع وأن يخلد ذكره بين الأدباء، وقد تجلت عبقريته الفائقة في أهاجيه المريرة اللاذعة، وهي لم تنشر على الناس في كتاب لبشاعة ما تحمل من التجني والإسفاف.

أما نظمه بمواضيع بؤسه وحرمانه، فهو يتمتع بسلاسة اللفظ ووضوح المعنى وصدق العاطفة، وكان يصور شجونه كما ترتسم في نفسه، ومن قوله:

أفي غرفتي يا رب أم أنا في لحدي

ألا شد ما ألقى من الزمن الوغد

فأهدأ أنفاسي تكاد تهدها

وأيسر لمسي في بنايتها يردي

تراني بها كل الأثاث فمعطفي

فراش لنومي أو وقاء من البرد

أرى النمل يخشى الناس إلا بأرضها

فأرجله أمضى من الصارم الهندي

تحملت فيها صبر أيوب في الضنى

وذقت هزال الجوع أكثر من غاندي

هذه بعض النفثات الحارة التي نفَّس بها الشاعر عن صدره وهي قريبة من نفثات إمام العبد.

*  *  *

 



([1] (أ) (2/ 480 ـ 481).

الأعلام