جاري التحميل

عبد الحميد الرافعي

الأعلام

عبد الحميد الرافعي([1])

(1851 ـ 1932م)

مولده ونشأته: هو الشاعر العبقري المرحوم عبد الحميد بن عبد الغني الرافعي الفاروقي، ولد في مدينة طرابلس في 5 شعبان سنة 1275ﻫ وآذار سنة 1851م، ونشأ في كنف والده مهد العلم والأدب والفضائل.

مراحل دراسته: تلقى دراسته في مدارس طرابلس، ولازم دروس العلم على شيخه المرحوم العلامة الشهير الشيخ حسين الجسر مدة أربع سنوات، وحضر دروس البلاغة في حلقة العلامة الشيخ محمود نشابة، وبعدها رحل إلى مصر وتلقى عن علماء الجامع الأزهر مدة خمس سنوات، وبرع في العلوم العربية والأدب، ثم رحل إلى الأستانة ولازم في مدرسة الحقوق، وكان خلالها يحرر في جريدة الاعتدال العربية بالمناوبة مع الكاتب الشهير المرحوم حسن حسني باشا الطوبراني.

عودته إلى طرابلس: ودخل في خدمة الدولة فعين مستنطقاً في طرابلس، وأقام فيها مدة عشر سنوات، ثم نقل منها إلى بنغازي فلم يشأ الذهاب إليها، وتوجه إلى الأستانة، وانتسب بالفحص إلى سلك وزارة الداخلية، فعيِّن قائم مقام لقضاء الناصرة، وتنقل في الوظائف الإدارية مدة عشرين سنة، وحاز الرتبة الثانية تقديراً لحسن خدماته، ثم أحيل إلى التقاعد سنة 1914م.

أثر البيئة: يتأثر كل إنسان بعناصر الإحساس والإلهام من البيئة التي يعيش فيها وتحدق به، وليس من شك أن للشاعر نصيباً من التأثر بالبيئة قد يكون أوفر مما هو عند غيره من الناس، فهو أدقُّ منهم إحساساً وأغزر شعوراً، والشاعر هو مرآة الأخلاق في عصره وأمته، كما وأن الطبيعة كان لها أثر بليغ في نفس الشاعر الملهم الرافعي مدة نشأته الأولى في بلده، وقد ألقت عليها الطبيعة وشاح السحر والجمال، كما وأنه تأثر بالمجتمع، وتجمعت في نفوسه وشعوره العميق أسـباب الألـم والثـورة يـوم كانـت البـلاد السـورية بأسـرها خاضعة لنوع من الأرسطوقراطية المزورة والأخلاقية الضعيفة بتأثير حكم الأجنبي والمتغلبة والحياة الإقطاعية المضطربة، كما كان لدراسته في الأزهر أثر كبير في حياته العلمية والأدبية.

مذهبه الشعري: كان الشعر لا يمثل في أواخر القرن العشرين غير قدرة الشعراء على نظم الألفاظ وتنسيقها حسب طرائق البديع، أما شاعريته فقد تحررت مـن قيـود الصناعـة والبديـع والرجوع إلى النفس لاسـتلهام العواطـف والوجدان وحديث الهوى.

ولعل أقرب ناحية في شعر الرافعي تتجلى في نفسيته ومذهبه في الناحية الغزلية المشرقة بضوء باهر من الجمال الشعري، وغزله الرقيق الشائع في أشعاره يدل على أن عواطف الحب وصور الجمال المعنوي قوية في نفسه، وهي التي خطَّتْ طريقه في المجتمع الإنساني.

والرافعي هو شاعر وجداني تلمح في غزله روحاً نقية بعيدة عن الاستهتار وضرام الشهوة، ومن بديع قوله:

صافحتها فرأت يمناي راجفة

والوجد أظهر في وجهي تلاوينا

وعزني لطفها حتى عصرت لها

كفًّا غدا بمياه اللطف معجونا

ورمت رمانتيها فانثنت غضباً

وقطبت حاجباً كالنون مقرونا

فنبهتي لحفظ الحب من دنس


وذكرتني عهداً قط ما شينا

لكن أضل رشادي سحر مقلتها

يا رب ثبت عليَّ العقل والدينا

ومن غزله المشهور الذي تغنى به أهل الطرب قصيدته الفريدة (عبرة الحب) وهي تعبر عن مدى حبه وعاطفته المثالية وتستهويك في معانيها روعة الوصف التي تستلب القلوب:

سلوها لماذا غير السقم حالها

ترى شغفت حبًّا وإلا فمالها

تبدل ذاك الورد بالورس وانطفى

سناها ورقت فهي تحكي خيالها

أظن هوى الغزلان قد هد حيلها

فإني رأيت الريم يوماً حيالها

تناجيه سرًّا وهي في زي واله

فخلت أخاها كان أو كان خالها

فيا حب غلغل في صميم فؤادها

ويا رب لا تعطف عليها غزالها

ويا حبها بالله كن متدللاً

وزدها كما كانت تزيد دلالها

وبالغ رعاك الله في طول هجرها

فكم هجرت صبًّا يروم وصالها

وكم من عليل في هواها لقد قضى

غراماً وما ألقت لبلواه بالها

ولكن أرحها بعض حين فإنني

شمت بها والقلب يأبى زوالها

ومن حب لم يبغض ولو حب هاجراً

فقد رق قلبي مذ رأيت هزالها

عسى أنها من بعد أن ذاقت الهوى

تنوح على من كان يهوى جمالها

وتذكر إذ كانت وللحسن عزة

ترى مهج العشاق صرعى قبالها

فبكى زماناً فيه أبكت بصدها

عيوناً تولاها الأسى فأسالها

ولعت بها حيناً من الدهر لم أفز

بساعة لطف كنت أرجو نوالها

ولو عطفت يوماً علي بزورة

لقبلت حتى بالعيون نعالها

ولكنها جارت وللجور عودة

على أهله لن يستطيعوا نزالها

صبرت عليها صبر حر فلم يفد

ولو رامها ذو خدعة لاستمالها

ولما بلغت اليأس من نيل وصلها

فررت بنفسي لا عليها ولا لها

وقلت لقلبي وهو يذكر عهدها

رويدك هذي بغية لن تنالها

تركت هواها واشتغلت بغيرها

ومن قطعت حبلي قطعت حبالها

الأخلاق الاجتماعية: وبمثل هذه الروح التي جمعت بين العاطفتين المثالية والاجتماعية ينغمس الشاعر الرافعي المثالي في وطنيته في غمرة الجماعة، فإذا به يهيب بقومه إلى طلب الحرية والاستقلال، وينكر عليهم الصبر والخضوع لحكم الأتراك واستبدادهم، ويرسل زفرة متوقدة على ضعف الخلق الاجتماعي، ومن رأيه أن إصلاح الحالة الاجتماعية لا يأتي إلا عن طريق العلم والخلق المتين، أو أخذ الحياة بالمعرفة والجد، وإلا فإنه كما قال:

الجهل واللهو إن داما فموعدنا

بالذل أقرب ما يأتي به الأمد

وكان رأيه في الحجاب [أنه] يدخل في موضوع الأخلاق الاجتماعية، ويرى الدعوة إلى السفور في مثل هذا الجو الأخلاقي الفاسد هي دعوة ضارة تؤدي إلى وهن الآداب الجنسية، ثم انفصام روابط الأسرة وهي الوحدة الاجتماعية الباقية وحدها في وسط ذلك الانحلال الاجتماعي المخيف، ويرى أن المرأة إذا كانت ترفع الحجاب ليقوم الزواج على شيء من الانتخاب الجنسي والتفاهم الروحي، فإن هذه التجربة الجرئية لا تسيغ ذلك في مثل هذا الجو الموبوء، ويقول في قصيدة الحجاب:

وأرى شباك الحسن أعظم قانص

قل لي فما هي حيلة المشبوك

والناس أكثرهم عبيد فروجهم

من مالك منهم ومن مملوك

نزعته القومية: ومما يذكر عن الرافعي بالإعجاب أنه لم يجر في أعقاب النهضة القومية، ولم تأخذه صيحة الجماهير وهو غافل عنهم، بل إنه كان أكثر الشعراء إحساساً بحاجة الأمة إلى الدعوة القومية، وأنشأ يدعو قومه للثورة والتحرر من سلطان الغاصب قبل الانقلاب التركي، وقبل أن تتكون الفكرة القومية الناضجة في أحضان الجمعيات العربية، وهذا نداء في مطلع إحدى قصائده:

يا أيها العرب اللاهون في حلم

هبوا فنومكم يا قوم قد طالا

ثم توالت أناشيده القومية، وله منها في المنفى آيات باهرة، وكان في نزعته القومية يلجأ تارة إلى تنبيه أمته عن طريق الحملة على الحكم التركي وما اجتمع تحت ظله من ألوان الظلم والإثم والفساد، وتارة يسلك سبيل إثارة العزة الراقدة في نفوس بني قومه، وكان يحذر الأمة من الانخداع بالأتراك لأنه أعلم الناس بطويتهم؛ لما أتيح له في مدة وظائفه الإدارية الطويلة من اختبارهم واستبطان أسرارهم والوقوف على غاياتهم، وقد جاءت الحرب العامة فصدقت فراسته في الترك، إذ بطشـوا فـي العرب وأذاقوهـم أنواع الخسـف والنكال، ومضى يندب ما أصاب أمته ورجالها الأحرار من ظلم الأتراك وغدرهم في قصائد شجية، وهلل الرافعي الشاعر الذي له مثل هذه العقيدة القومية للثورة التي غلت يد الأتراك عن المضي في فظائعهم، وكان يعنف قومه في نغمة نارية على ما بدا منهم من الجمود إزاء هذه الثورة التي أضرمت في الحجاز.

في المنفى: وقد تعرض لسخط الحكومة التركية خلال الحرب العامة الأولى بسبب فرار ولده من الخدمة العسكرية الإجبارية، ونفي إلى المدينة المنورة، ثم نقل منها إلى (قرق كليسا) في الأناضول، وبقي منفيًّا مدة سنة وثلاثة أشهر، وفي منفاه تبدو لك روح الرافعي في نور مضطرم حزين، فقد كان النفي محنة كبيرة جديرة بأن تحرك النفس وتثير كوامنها، وما كانت هذه المحنة إلا لتزيده جلادة على الخطب وحماسة في القلب وتوهجًّا في التعبير عن عواطفه وأفكاره، فتجد في دعوته القومية وثورته على الظلم وحنينه على الوطن ووحشته في الغربة ناراً متقدة فاضت عن عاطفته وهو في منفاه، فقال يبث نجواه وحنينه في صبر وعزة وإيمان:

غدوت بها كالطير في القفص انزوى

مهيض جناح واجداً ألم الضنك

بعيداً عن الأوطان والأهل لا أرى

شفيقاً إليه النفس تضحك أو تبكي

أطوف نهاري خائضاً تيه سوحها

وقلبي عن نار الأسى غير منفك

وإن جن ليلي قلت للنجم إن تكن

أنيساً لمثلي فادن واستمل ما أحكي

فلم ألقه إلا كزرق نواظر

يلاحظني شزراً كمن يرتجي هلكي

فأصرف عنه الطرف يأساً كأنني

توخيت معنى لا يلائمه سبكي

وأطوي على جمر وأغضي على قذى

ولا أشتكي ضيماً فما ثمَّ من يشكي

وللشاعـر الرافعـي غيـر مـا تناوله البحث عن نواحي عبقريته من الآراء والألحان المنثورة في الحياة والاجتماع كالوطن والاستعمار والبداوة والحضارة والتربية والتعليم وغيرها. هذا هو سبيله من الشعر الوجداني.

مؤلفاته: لم يطبع من شعره سوى ديوانه في المدائح الرفاعية، وديوان آخر في مدائح البيت الصيادي، ونظم في المنفى ديواناً سماه (المنهل الأصفى في خواطر المنفى) جاء فيه بالبدائع، وسيعد للطبع قريباً.

الاحتفاء في يوبيله الذهبي: وتألفت لجنة (يوبيل الرافعي) في طرابلس برئاسـة سماحـة العلامـة المرحوم الشـيخ محمـد الجسـر رئيس المجلس النيابي في الجمهورية اللبنانية، وتضم أعلام الأدب والفضل، وكان موعد الاحتفال يوم 7 نيسان سنة 1929م، ومنح رئيس الجمهورية المحتفل به وسام الاستحقاق اللبناني الفضي، ثم تبارى أمراء القريض والبيان في تمجيد شاعريته وعبقريته، وفي طليعتهم أمير البيان الأمير شكيب أرسلان وشاعر القطرين خليل مطران، وأرسل أحمد شوقي أمير الشعراء قصيدة طويلة نقتطف منها بعض أبياتها:

أعرني النجم أو هب لي يراعا

يزيد (الرافعيين) ارتفاعا

مكان الشمس أضوأ أن يحلى

وأنبه في البرية أن يذاعا

ويصف أمير الشعراء نوابغ الرافعيين فيقول:

إذا أسد الشرى شبعت فعفت

رأيت شبابهم عفواً جياعا

فلم تر مصر أصدق من (أمين)

ولا أوفى إذا ريعت دفاعا

وحال دون حضوره الاحتفال فيقول:

أمير المهرجان وددت أني

أرى في مهرجانك أو أراعى

عدت دون الخفوف له عواد

تحدين المشيئة والزماعا

وما أنا حين سار الركب إلا

كباغي الحج هم فما استطاعا

وفاته: وفي يوم الجمعة الثاني والعشرين من شهر نيسان سنة 1932م 16 ذي الحجة سنة 1350ﻫ دعاه ربه إلى منازله الخالدة، ودفن بمقبرة الأسرة في طرابلس، وقد تزوج سيدة من عائلة آل المقدم في طرابلس، وأكبر أنجاله هو القاضيالمتقاعد الأستاذ سمير.

*  *  *

 



([1] (أ) (2/ 303 ـ 306).

الأعلام