عبد الحميد الزهراوي
عبد الحميد الزهراوي([1])
شهيد الوطنية والعروبة المرحوم عبد الحميد الزهراوي
ولد شهيد الوطنية الفقيد المرحوم عبد الحميد بن محمد شاكر بن السيد إبراهيم الزهراوي بمدينة حمص سنة (1288ﻫ) ـ (1871م) من أسرة عريقة في قدمها ووجاهتها، وهي تنحدر من أصلاب سيدنا الحسين رضي الله عنه. درس علومه على علماء عصره، وأجهد نفسه على التحصيل ومطالعة الكتب في كل فن حتى بلغ في ثقافته شأواً عظيماً.
وفي سنة (1308ﻫ) ـ (1890م) سافر إلى الأستانة بقصد السياحة فأقام فيها برهة وجيزة، ثم سافر منها إلى مصر، وهناك اجتمع بكثير من الفضلاء والأدباء، وجرت بينه وبينهم مطارحات شعرية ارتجالية فكان موضع الإعجاب والتقدير، وبعدها رجع إلى حمص فأصدر جريدة سماها (المنبر)، فكان ينتقد أعمال الحكومة وجورها وعسفها، والحكومة تهتم لمنعها ومصادرة أعدادها.
وفي سنة (1313ﻫ) ـ (1895م) سافر ثانية إلى الأستانة بقصد التجارة، ولما كان المجتمع العربي والوضع السياسي بحاجة إليه فقد ترك التجارة وعكف على مطالعة العلوم والفنون في دور المكتبة العمومية، وكان يحرر في جريدة (المعلومات) العربية المقالات الأدبية والإصلاحية، فكان يراعه كالمهند الصارم شديد الوطأة في ذاك العهد، فوضعه السلطان عبد الحميد تحت المراقبة، ثم عين قاضياً لأحد الألوية فلم يقبل، وكان القصد من تعيينه إبعاده عن جو العاصمة للحد من دعاياته وأفكاره المؤثرة. وبعد أن أوقف تحت المراقبة أربعة أشهر أرسل إلى دمشق (بإقامة جبرية) براتب شهري قدره خمس مئة قرش ذهبي.
وفي خلال إقامته بدمشق كتب رسالة في الإمامة ورسالة في الفقه والتصوف نقد بعض المسائل فيهما، وبحثاً في الاجتهاد، فثار عليه العامة بإغراء بعض المحرضين من العلماء، ولما جمعهم الوالي ناظم باشا في مجلسه للمباحثة والمناظرة في موضوع رسالته تغلب عليهم بقوة حججه الدامغة، ولما عجزوا عن إدراك غايتهم عمدوا إلى التلفيق، فكانت الإيحاءات السياسية المسندة إليه كافية لإبعاده عن دمشق التي أقام فيها سنة وستة أشهر، فأرسل مخفوراً إلى استانبول، وأقام فيها نصف سنة، ثم أرسل محفوظاً إلى وطنه حمص (بإقامة إجبارية)، وأنتجت قريحته الوقادة عدة مؤلفات منها كتاب (نظام الحب والنبض)، وترجمة السيدة خديجة أم المؤمنين، ورسالة في النحو، وأخرى في المنطق، وغيرها في علوم البلاغة والمعاني والبيان والبديع، وكتاب في الفقه، وله مخطوطات كثيرة بقيت مسودة بخطه اغتالتها يد الأتراك عندما جيء به من الأستانة إلى الديوان العرفي في (عاليه)، وله شعر لطيف في كل باب.
وفي سنة 1320ﻫ ـ 1902م ضاق ذرعاً من إقامته الإجبارية ففر هارباً من حمص إلى مصر، واشترك في إدارة تحرير جريدة (المؤيد) المصرية، ونشر فيها مقالات مفيدة مشهورة، ولما حصل الانقلاب العثماني وأعلن الدستور انتخب عن حمص نائباً في مجلس (المبعوثين) ـ النواب ـ فكان صوته في المجلس من أقوى الأصوات في سبيل خدمة أمته وبلاده.
وفي خلال الدورة الأولى لمجلس المبعوثين أصدر الفقيد في الأستانة جريدة (الحضارة) وكان من مؤسسي حزب الحرية والائتلاف المؤسس لمعارضة حزب الاتحاد والترقي.
حادثة 31 مارت الشهيرة: وفي أول سنة نيابته وقعت حادثة 31 مارت الشهيرة، فقد حاصر الجند المجلس النيابي بحجة الارتجاع عن الدستور، وقتل المرحوم محمد بك أرسلان مبعوث اللاذقية برصاص الجند في باب المجلس، ورمى بعض النواب بأنفسهم من النوافذ العالية وتحطموا خوفاً من القتل، وفرَّ الكثير منهم حفظاً لحياتهم، وبقي الشهيد الشجاع مع بضعة أشخاص ثابتي الجأش وهم يخابرون المراكز بالهاتف ويذكرون الواقعة وما هم فيه من خطر، ويأس الشهيد من هذا الحصار فاخترق صفوف الجند بلا اكتراث حتى وصل إلى منزله وانفضَّ الجمع، فثباته في مثل هذا الموقف الحرج يدل على استهتاره بالحياة ومدى عقيدته وجرأته، وعلى إثر هذه الحادثة التي شاع خبرها حتى بلغ الرومللي بشكل مجسم زحف محمود شوكت باشا بجيوشه ليضرب الأستانة لحماية الدستور والتنكيل بالارتجاعيين والانتقام ممن آثاروا هذه الفتنة، فأرسلت الحكومة إذ ذاك هيئة مؤلفة من الأعيان والمبعوثين لمقابلة القائد الزاحف وإبلاغه حقيقة الحال، فكان الشهيد العظيم من تلك الهيئة، فاستقبلوه في (اياستفانوس) من ضواحي الأستانة وأوقفوه على جلية الأمر حتى سكن غضبه ودخل بغير حرب.
وفي أواخر هذه الدورة للمجلس حصلت مناقشة حول المادة (35) من القانون الأساسي ووقع الخلاف الشديد فانفض المجلس، وتجدد الانتخاب ثانية فعاد المترجم إلى وطنه، وأوحت الحكومة الاتحادية بعدم انتخابه نائباً، وعاد إلى استانبول وتابع الاشتغال بالصحافة، وبعدها سافر إلى مصر، وانتخب رئيساً للمؤتمر الذي انعقد في باريس لأجل مطالبة الحكومة التركية بالإصلاحات اللازمة لبلاد العرب، وكان مدة إقامته في باريس موضع الإعجاب والتبجيل، واهتمت الحكومة الاتحادية لوجوده في باريس، فأوفدت وفداً إليه لإقناعه بالعودة وإجابة مطالبه، فعاد إلى الأستانة وعين عضواً في مجلس الأعيان ليشرف على إنجاز وعدهم.
ثم بدأت الحرب العالمية الأولى وأعلن جمال باشا السفاح القائد العام في البلاد السورية الإدارة العرفية، وانتقم من رجالات العرب ونوابغهم.
وفي ليلة السبت 4 رجب سنة 1334ﻫ و23 نيسان سنة 1916م صلب هذا النابغـة العظيـم بدمشـق الشـام مـع جملـة من وجهاء البلاد السورية بلا محاكمة ولا سؤال.
وكان لسان حاله يقول:
يا جزع نح وابك واندب جثة خلقت | من يوم (قالوا بلى) للضنك والمحن |
وحي أهلاً وجيراناً وآوانة | حي الرفاق وحي سائر الوطن |
حبًّا بصالحهم أضحيت فديتهم | ليقطفوا ثمراً من راحتي جنى |
وربما جهـل النـاس أنـه رحمـه الله كان شاعراً مبدعاً قويًّا في أسلوبه، ومن ألطف شعره القصيدة العصماء التي نظمها، أثبت منها بعض أبياتها ليقف المطلع على رسوخ قدمه وبعد أفكاره وحسن يقينه واعتقاده وقوته في النظم والبيان والبديع.
لا تكذبنَّا يا بصر | لا تخدعينا يا فكر |
إن الحقائق تحت طيْـ | ـي النشر فوق المنتظر |
لكن برؤيتها دعا | وى الناس تعي من حصر |
وسوى سراب لم يروا | والآل كم عز النظر |
أنى التصور يا حجا | للسر في هذي الصور |
الكون مبني على الـ | حركات كل في قدر |
ومنها:
دع عنك دعوى واستمع | قولاً مفيداً مختصر |
الناس عثر في الغرو | ر ولاجئون إلى الغرر |
دعوى بها يسلون ما | يلقون من تعب وضر |
فهم رهان الكدح ما | داموا وتلك هي السير |
رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
* * *