عبد الخالق عبارة الحمصي
عبد الخالق عبارة الحمصي([1])
العندليب الساحر بصوته النادر المرحوم عبد الخالق عبارة الحمصي
أصله ونشأته: هو عبد الخالق بن السيد عبد الرحمن عبارة، ولد في حمص عام 1864 ونشأ في بيئة فاضلة، وكان يسكن في محلة الحميدية ويتعاطى مهنة حياكة الأقمشة الحريرية والصوفية، وتشتغل برئاسته ورشة صناعية كبيرة لإنتاح الصايات الحمصية المشهورة التي كانت رائجة وتباع في أسواق مصر والهندوتركيا وغيرها، وكانت أحواله المالية تتحسن حسب الظروف الاقتصادية بنسبة تصريف بضائعه وتسوء عندما تضطرب الأسواق التجارية، وهو الذي ألبس الطيارين التركيين فتحي وصادق العباءات الحريرية من صنع محله عندما مرا من حمص بطريقهما إلى فلسطين، واستشهدا بسقوط طائرتهما بالقرب من قرية كفر حارب الواقعة بسفح مرزعة عز الدين السليمان الوجيه الجركسي على ساحل طبريا.
ثقافته وصفاته: كان رحمه الله يتردد على مجلس الشيخ محمد المحمود الأتاسي العالم واللغوي الشهير في حمص، ومن كان يجالس هذا العالم فلا شك بتضلعه في علوم اللغة العربية، وكان يجالس أيضاً الشاعر والفنان الشيخ طاهر شمس الدين الحمصي، ويلبس الجبة وعلى رأسه عمامة مطرزة.
كان هادئ الطبع ليناً، كريم الأخلاق، حسن المعشر، جم التواضع مع شدة الأنفة والضن بالكرامة، حريصاً على اختيار اللفظ المهذب في جميع أحاديثه.
فنه: يعتبر صوت المرحوم عبد الخالق عبارة من الطراز الأول النادر في قوته ورخامته وحلاوته، وإذا صنفنا الأصوات التي أبدعها الله في هذا الكون فصوت الفقيد في الطليعة، وتأنق أصوات الفنانين والمطربين قياساً لصوته في الدرجة الثانية والثالثة والرابعة بعد صوته الفذ.
كانت روائع فنه صعبة المرتقى عزيزة المنال على غيره من الفنانين، يحلِّل الأنغـام علـى أصولها ويأتـي بمواقعها ونغماتها بشـكل قوي ساحر، كان حافظاً للأوزان الإيقاعية والأدوار المصرية الشهيرة في عهده والقصائد والموشحات القديمة، فإذا غنى استلب بسحر صوته وشجوه الألباب.
وصدف مرة أن كان في قرية الريان التابعة لحمص وشردت جمال أحد الرعاة، فلما غنى عادت إليه، ثم ساقها الراعي، وغنى مرة أخرى فعادت إليه دون إرادة الراعي، فكانت الإبل تترك الراعي لتسمع صوته.
سفره إلى استانبول: واتصلت شهرته بالمرحوم السيد أبي الهدى الصيادي الرفاعي شيخ السلطان عبد الحميد، فكتب إلى حمص متوسلاً وداعياً إليه أن يسرع بزيارته في استانبول، فسافر الفقيد، واستقبله وأغراه بترحيبه وتكريمه أن يبقى عنده فرضي، وكان منشد ذكره الممتاز بين المنشدين الكثيرين وجلهم من أصحاب الأصوات الجميلة، وكان الأمراء والوزراء والعظماء ينتظرون بفارغ الصبر ليلة الذكر للاستماع إلى صوته الباهر، ولا يجرؤون على دعوته إلى مجالسهم الخاصة تحاشياً من إغضاب شيخ السلطان.
كان ينشد في الفصل الأخير القصائد التي تناسب المقام في مدح القطب السيد الرفاعي، فإذا سمع الحاضرون صوته استولى عليهم الذهول وغلبهم البكاء كأنهم في مناحة، وكان الشيخ الصيادي ينزل من سدته الخاصة في الفصل الأخير ويدور في حلقة الذكر، حتى إذا انتهى الفصل تقدم إلى الفقيد المترجم وشكره مقدراً مواهبه وصوته الشجي الذي استدر عبرات الذاكرين.
كانت تكية الصيادي في استانبول تضم أعظم المنشدين في عهده، وكان المترجم في مقدمتهم، ويأتي دور إنشاده في النهاية، لأنه إذا غنى في الابتداء كسف بسحر صوته بقية المنشدين، فلا يستطيع أحدهم أن يغني بعده، ولما وقع الانقلابالتركي عاد إلى وطنه وتعاطى تجارته، وعاش في الذكريات.
سفره إلى مصر: واقتضت مصلحته التجارية أن يزور مصر للتعرف على عملاء يعتمدهم في تصريف تجارته، فسافر ونزل ضيفاً عند المرحوم نعمان سالم أحد التجار الحمصيين المقيمين في مصر، وتعرف على أبي خليل القباني الفنان العبقري وسمع صوته، فكان يقول: (عبده كن ـ ويعني بذلك الفقيد عبارة ـ أحسن من عبده الحمولي) الفنان المصري الشهير بحلاوة صوته وروعة فنه، واستفاد المترجم من فنون القباني وألحانه، وتعرف واجتمع بفناني مصر، فكان صوته آية باهرة كما شهد بذلك أئمة الفن الذين اكتشفوا نبوغه المحجب وعبقريته الفنية الكامنة، وكانوا يتوسلون إليه أن يروي ظمأ نفوسهم بهذا الصوت السحري الجميل وذلك الشجو العلوي العظيم، ولو آثر البقاء في مصر والاشتغالفي الفن لطغى صوته وفاقت عبقريته الفنية على جميع الفنانين.
وفاته: وفي اليوم التاسع عشر من شهر نيسان 1916م انتقل إلى رحمة ربه ودفن في مقبرة عائلته، وتأسفت حمص على فقد فنان كان بدرها وعندليبها الصادح، وأعقب من الأولاد ستة ذكور، تغمده الله برحمته ورضوانه.
* * *