جاري التحميل

عبد الرحمن الزيات

الأعلام

عبد الرحمن الزيات([1])

المطرب والبلبل المتفنن المرحوم عبد الرحمن الزيات

يمر بالمرء في هذه الدنيا الفانية ألوان من الناس وصور تختلف طبائعها وتتباين أخلاقها، وكثير منها يمر كما يمر الطيف ولا تحس به إلا حينما تجد مكانه فارغاً ولا تأبه له، لقد طوى الموت ما بين عبد الرحمن الزيات والناس، فكان لموته أثر فاجع في نفوس محبيه.

ومن الأصدقاء من كان أقرب مني إليه وأكثر ملازمة له وأقدر مني على التحدث عنه بما يوافيه حقه لغيابي الطويل عن حمص، ومع هذا فإني لا أجد بأساً بأن أقول في الفقيد الفنان كلمة يفيض بها الخاطر وينبغي أن ينطلق بها اللسان وفاء له:

أصله: ولد المرحوم عبد الرحمن الزيات بن طاهر في حمص عام 1902م وكان يسكن مع والده في حي باب السباع، ويتعاطى أفراد هذه العائلة المهن الحرة ويعيشون من كد يمينهم وعرق جبينهم، تصونهم الكرامة من العيش بالحلال، وهي مزية امتازت بها الطبقات الكادحة العاملة.

كانت هذه العائلة موسيقية بالفطرة، فإذا صدف أن أنشدت المولد النبوي الشريف في هدوء الكون راح الطرب في نشوة التجلي يدفع الناس للوقوف والاستماع إلى بشر تعلو أصواتهم على البلابل في الإنشاد البديع، ولما أصبح يافعاً اشتد ميله إلى الفن والأخذ عن أسطوانات الغناء، فكان يحكم التقليد ويحفظها أكثر إتقاناً من ملحنيها، واشتهر أمره وذاع صيته، فكان الناس يتهافتون لسماعه بكل شغف وهو خجل حساس لا يرد طلب من دعاه.

نشأته الفنية: ولما انتشرت أدوار وموشحات وقصائد الفنانين المصريين تهافت على حفظها من الأسطوانات، وكان كثير التردد لزيارة الوجيه السيد مصطفى الباكير البرازي في قرية طلف، إذ كان غاوياً يقتني الأسطوانات التي كانت تباع بأسعار غالية، فيجد لديه ما تصبوا إليه نفسه، فكان يجعل طبقة العود الذي يعزف عليه مطابقة لدرجة الأسطوانة ويسمعها ويعيدها مرات، فيحفظها ويجيد إنشادها أكثر من المصريين أنفسهم.

كان رحمه الله يحفظ الأدوار والموشحات القديمة للحامولي والمينلاوي ومحمد عثمان وداود حسني والقباني وغيرهم من مشاهير الفنانين، ولما انتشرت أدوار وموشحات المرحوم الشيخ سيد درويش المشهورة تلقاها بشغف وانكب على حفظها، فكان يفتن الناس بآيات فنه وسحر صوته.

لقد سمعته لأول مرة وهو يغني في الميماس موشح (يا كحيل المقلتين) فأدهشني صوته ووقفت في مكاني لا أريم، كأنما ربط على قدمي فلا تخطوان. وكان أول معرفتي به أيام الحرب العالمية الأولى، فقد استوطن حمص المرحوم الموسيقار نخلة القطريب، فكنت وإياه نتلقى منه بعض الموشحات وأوزانها.

ولا نكران بأن لشقيقه الفنان البارع عبد الغني الزيات وهو أكبر منه سنًّا وأقدر منه فنًّا الفضل في توجيهه حتى بلغ قمة المجد بفنه وصوته المصقول.

تطوره الفني: وفي عام 1920م إلى عام 1924م ظل الشيخ سيد الصفتي الفنان المصري المشهور يتردد على حمص، فكان مسرحه منهلاً عذباً لعشاق الفن للاستماع إلى المغنى الجديد من ألحان الشيخ سيد درويش وغيره، وكان المرحوم الزيات في سن العشرين آنذاك يسترق السمع بشغف، ولما تم التعارف بينهم طلب منه أن يغني ما يريد، فانبرى الفقيد يغني الموشح الرائع القديم (راعي اليواقيت العذاب) فاعترت الصفتي دهشة من قوة صوته وحسن تنقله من نغمة الراست ودخوله في دور الزنجران (في شرع مين ذل الهوى) والسبب في إنشاده موشح الراست المذكور هو لعدم وجود موشح ملحن من نغمة الزنجران الصعبة حتى ذلك العهد، حتى قام المرحوم عمر البطش الحلبي بتلحين وصلة من الموشحات على هذه النغمة. وقد شهد له الفنان المصري بحسن التقليد والإجادة وقوة صوته النادر ووضوح نبراته وتأثير نغماته في النفوس واشتدت الصلات الفنية بينهما فكان لا يفارقه طيلة مدة إقامته، وقد طلب الشيخ منه أن يأخذه معه إلى مصر لتتسع آفاق فنه، فعز عليه فراق أهله وأصحابه. ولما حضر الموسيقار محمد عبد الوهاب إلى حمص وسمع صوته قال له: حرام أن تبقى هنا وفيك هذا الصوت النادر، وألح عليه بالسفر معه إلى مصر فلم يرض، وكذلك عرض عليه السيد سامي الشوا فأبى أيضاً.

فنه: كان يلحن القصائد التي يروق لذوقه اختيار قوافيها ومعانيها، فيغنيها على الواحدة بوزن قوي خال من كل هفوة فنية، ومن أبرز قصائده التي لحنها لنفسه والتي كان يؤثر فيها بعواطف المستمعين فيتركهم سكارى فنه وإبداعه هي قصيدة الفارض:

قلبي يحدثني بأنك متلفي

روحي فداك عرفت أم لم تعرف

وكان يردد قصائد المرحوم الفنان محيي الدين بعيون وهي نسج طراز خاص، وينشد قصيدته (أنا في الحب صاحب المعجزات) فيبدع في تقليدها.

يعتبر المرحوم من الطراز الأول في إنشاد المواويل، فلا يبارى ولا يجارى في هذا المضمار، فإذا غناها سحر الألباب، منها إنشاده:

من يخبر القوم عني يا كرام الحي

بأن نفسي لقد ماتت وقلبي حي

بالله ذاك الحمى النجدي حي

وقل على الوصل يا حادي الركائب حي

ويأتي الفقيد في الدرجة الثانية بعد المرحومين الحاج محمد الشاويش ونجيب زين الدين، أما في الحفظ فإنه يمتاز عنهما لاعتنائه الكثير في ذلك.

صفاته: كان رحمه الله دمث الأخلاق، لين الطباع، ذكيًّا، لا شطط ولا اغترار في نفسه وفنه، وسيم الوجه، مشرق الجبين، حلو القسمات، يلبس الكوفية والعقال لصلعة في رأسه، وكان عشاق فنه إذا غلبهم الطرب ونشوة التجلي اندفعوا يقبلون رأسه يمزحون قائلين: قبلوا الحجر الأبيض كما يقبل الحجاج الحجر الأسود في الكعبة الشريفة.

كان عزيز النفس، يعيش من فنه كغاوٍ، ولم يحترف، ولو شاء الاحتراف لحالفه التوفيق وفاق على معاصريه.

دبيب المرض: لقد كان مصيره كمصير زميله الفنان كميل شمبير، فقد كانت حياته كحياة النحلة التي تجهد النفس لتمون الناس بشهدها الصافي، فقد أنس رحمه الله للمرض وظل حياته الأخيرة في هذا الجحيم يستعذب الآلام ويرحببالشقاء، وقد صبر على أوجاعه وآلامه في صمت وسكون، وكانت تثير كوامن عواطفه قصائد الشعراء الصوفيين التي كان يتغنى بها وهي تنطق بالتوجع ولوعة المحبين، وبالرغم من أن الهزال قد دب في جسمه فلم تنطفئ له بهجة ولم تذبل له عينان، وإذا آنسه عشاق فنه بزياراتهم بعد أن أحس بألم الفاقة وبؤس الحرمان قابلهم بالسكون وانهمار الدموع، وتذكر ماضيه باحتراق وأسى، واشتعلت نار النحيب والأشجان في قلبه، وإني أعرف من خلصائه من قام بواجب مساعدته، ولكـن المرض امتد بـه، وجثـم الفقـر علـى حيـاة هـذا الفنـان، والفقـر والفـن صنوان لا يفترقان، ويندر أن ترى فناناً مكتفياً في حياته، فتاريخ الفنانين كله فواجع.

من منا ينسى الزيات وهو يغني، عيناه، خداه، ابتسامته، كل أسارير وجهه تشترك مع نفسه الطروبة، فإذا غنى وعزف على عوده حرك القلوب والأشجان، ويتفق أحياناً أن يغني المطرب وهو متأثر بحادثة، أو أن تكون في الدور الذي يغنيه معان تتصل بعواطفه أو الحالة التي هو فيها، وعندئذ يصبح المغني كفرد من الجمهور الذي يسمعه ويتأثر بغنائه حتى إنه ليبكي.

وفاته: كانت ترتع في مخيلة أفكاره عهد صباه وحبه، فإذا تذكر عجز عن تحمل الصدمة وانفجر بالبكاء والنحيب وكأنه شعر بدنو الأجل، لكن المرض قد تزود من الأقدار بما تضعف أمامه كل وسيلة، وتنمحي لديه كل محاولة وحيلة، فأخذ يشتد على هذا الجسم الضئيل ويغالب هذه الروح القوية، وتنازعت الحياة والموت أيهما يظفر بهذا الجسم، فلمع بريق الموت الذي له من الجبروت والسلطان ما تصغر أمامه قوة الإنسان، واستمر في نضال وصراع حتى صباح يوم عيد الأضحى المبارك عام 1937م، حيث ارتفعت روحه مطمئنة إلى السماء بعدما عانت آلامها على الأرض، فكانت حمص في مأتم على فقده، ووقف زميله الفنان المرحوم نجيب زين الدين يودعه النظرة الأخيرة وهو يبكي، ويؤبنه بأن الفراغ لا يسد بوفاته.

لقد غاض ذلك النبع الفياض وكان منهلاً عذباً، وانطفأت تلك الجذوة الفنية التي كانت تتقد وتلتهب حزناً وشدواً للمحبين، لقد طوى الردى الزيات وما كان إلا هبة وهبه الله للناس، فحمل هول المصيبة عن الناس وهم مشغولون في عيدهم حتى ذاع نعيه تلك الطيور التي طالما ناجاها، وتلك النجوم التي طالما استوحاها.

لقد استسلم لريب المنون، وختم حياته بالتأوه والأنين كما عاش متأوهاً من مآسي الحياة، ساجياً بالأنين والزفرات، وارتاحت منه نفس كانت كثيرة الآلام والأشجان، وسكنت روح هذا البلبل الغريد الذي طالما أبكى العيون بشدوه وفنونه، واحتاط بنعش الفقيد أعز الناس وأقربهم إليه مودة، وقاموا بواجب العزاء.

لقد أعقب الفقيد خمسة ذكور، وكلهم بلابل.

رحم الله الزيات، وأجزل مثوبته.

*  *  *

 



([1] (أ) (1/ 88 ـ 89).

الأعلام