عبد الرحمن القصار
عبد الرحمن القصار([1])
هزار الأنس وبلبل دمشق المرحوم الشيخ عبد الرحمن القصار
لا شك أن أسرار النهضات الأدبية والفنية والسياسية في العالم هي وليدة نبوغ عباقرة الشعر والأدب والفن، فهم ألسنة قاطعة وسيوف مرهفة في توجيه الشعوب، وكواكب سيارة ساطعة على آفاق الأمم فتهديها سبل الخير والرشاد، وشاعر دمشق الشيخ عبد الرحمن القصار رحمه الله كان من هذه العناصر، فقد وهب علمه البليغ وفنه الرائع ويراعه القاطع لخدمة المجتمع.
أجـل لقـد طواه الماضي القريب ودخل في سجل التاريخ، ولكن ذكرياته لا تنسى، وما زال الناس يتحدثون عنه ويتندرون بشمائله العطرة، لقد كان ريحانة المجتمع وأسداً هصوراً له جولات مشهورة في ميادين الخطابة والوعظ والإرشاد والدعوة إلى مكارم الأخلاق وإيقاظ القلوب النائمة.
أصله ونشأته: ولد المترجم الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ عبد الحميد القصار في دمشق سنة (1868م) من عائلة حسنية النسب، عاش بكنف والده وأخذ العلوم الدينية والفقه والتفسير والبيان والعروض عن علماء عصره من آل الخطيب الأعلامبدمشق، فبرع في شتى العلوم، وبرزت مواهبه في النواحي الأدبية والخطابة والشعر والفن الموسيقي بشكل خاص، فكان محط أنظار المجتمع.
أحواله الخاصة: كان الفقيد رحمه الله يستشف أسرار الحياة ويرى بقوله تعالى: ﴿ﲢﲣﲤﲥﲦﲧ﴾ عبرة العابرين، فابتعد عن الزواج وانقطع إلى العلم والتدريس في مدرسة عبد الله باشا، فكان الخطيب والناظر لجامع تيروزي الواقع في محلة قبر عاتكة بدمشق، يعيش من الراتب المخصص لهذه الوظائف الدينية، ومع وجود سكن له مع أهله فقد كان يتحاشى الضوضاء ويهوى الانفراد واتخذ له في الجامع المذكور غرفة ذات شقين للتفرغ والمطالعة، فكان يأنس بالعزلة ويرى فيها الراحة والمجال الواسع للتأليف ومقارعة قوافي الشعر.
علمه وشعره: كان من العلماء الذين أنجبتهم دمشق واعتزت بنبوغهم، وبالرغم مما وصل إليه من نفوذ وجاه في العهد التركي فإنه كان لا يألو جهداً في خدمة مصالح الناس بالشفاعات الشريفة، ومن أكرم العناصر وفاء واعترافاً بفضل مثقفيه من آل الخطيب وقد مدح ورثى شيوخه بخرائد شعرية خالدة، له ديوان شعري بخط يده لم يطبع بعد، وعنوانه: «ديوان تغريد الهزار لناسج برده وناظم عقده عبد الرحمن القصار»، ولهذا الديوان قصة طريفة، فقد توفي الفقيد ولم يترك من حطام الدنيا إلا كتبه العادية ومؤلفاته، وهي ثروته الأدبية، أما ديوانه فقد ضاع إثره، فرأى الشيخ عبد الرحمن الخطيب الفقيد في الرؤيا وكان صديقه وقال له: (إن ديواني موجود لدى ابن أختي فقل لأخي محمد أن يأخذه منه)، فقص الأستاذالخطيب الرؤيا على أخ المترجم وبعد شهر ونصف حضر ابن أخته وسلم خاله الديوان، وهنا يبدو السر والعجب، فقد أنكر في بادئ الأمر علمه بالديوان ثم اعترف به وأحضره مكرهاً، فهل للأرواح علاقة في هذا الموضوع يا ترى؟
يحتوي ديوانه على قصائد كثيرة في المدح والرثاء والغزل والعتاب والهجاء والسياسة والوطنية ومحاربة الجهل والسفور والتشاطير والتخاميس.
كان يتألم ويرثي لحال الأيتام الذين نكبهم الدهر وحرمهم نعمة العلم والعرفان، ويناشد الأغنياء ويستعطف شفقتهم، فقال:
أفي كل يوم خطبة وقصيد | وفي كل ناد واعظ ورشيد |
خطيب إلى الإصلاح يدعو وشاهر | يشجع في تشويقه ويحيد |
ومنها:
وليس عدو للفتى مثل جهله | إذا ما استبد اجتاح وهو عنيد |
ولما لم ير منهم ما يشفي غله توجه إلى إسماعيل باشا والي سورية يشكو إليه قلة المدارس في العهد التركي ويستحثه لتلافي الأمر فقال:
هذا كتاب مرسل مفتوح | من مستهام قلبه مجروح |
يشكو لوالي سوريا متوسلاً | والدمع من أجفانه مسفوح |
ومنها:
انظر إلى الأيتام وارث لحالهم | انظر إلى الأطفال كيف تطوح |
أحواله الاجتماعية: لقد كانت الحالة الاجتماعية في عهده صراعاً بين دعوتين خطيرتين، فقد برزت الدعوة إلى السفور وناصرها بعض الشعراء والكتاب وفي طليعتهم شاعر العراق المرحوم جميل الزهاوي، فانبرى المترجم يدعو إلى مكارم الأخلاق والاحتفاظ بالحجاب ويقاوم دعوة السفور بكل ما أوتي من قوة وبلاغة وبيان في خطبه وشعره، فرد على الزهاوي بقصيدة طويلة منها قوله:
قل لداع يدعو لكشف الحجاب | ما لهذا التهويل والاضطراب |
أجحوداً لقول رب غيور | (فأسالوهن من رواء حجاب) |
ليت الفقيد امتد أجله إلى هذه الأيام ليرى بعينيه ما وصلت إليه حالة السفور والاختلاط الجنسي.
ومن الحوادث الطريفة التي مرت عليه في حياته أنه في سنة 1882م دعي إلى وليمة كان فيها نحواً من ثلاثين ذاتاً من أعيان الشام، فمزج أحد عشاق المجون (الزنجار بالحليب) فأصيبوا جميعهم بالإسهال والقيء والمرض، وتندر الناس بوقائعها الطريفة وجعل الشطر الأخير تاريخاً فقال:
ما لي أراني في الفراش مخمراً | والوجه مني اليوم صار معصفرا |
والمغص في بطني غدا متواطناً | والقيء أجرى من فؤادي أنهرا |
ومنها:
أما البلاء فكان من كشك الفقيـ | ـر فليته أضحى غنياً مؤثرا |
إلى أن قال:
تبًّا لها من ليلة مشؤومة | أرخ بها شاهدت ريحاً أصفرا |
علاقته مع القواد الأتراك: كان أمراء الجيش وحكام البلاد الأتراك يخطبون وده ويجلون قدره ويستثمرون نفوذه وسلطانه الروحي، فكان يحث الناس للاكتتاب وجمع التبرعات للجيش، فخاطب الشعب بقصيدة بديعة عنوانها (هل من مجيب)، فقال:
أسعفوا الجيش أيها الأغنياء | من بإحسانهم يجاب النداء |
إنني أدعو للسخاء كريما | لا لئيماً يخيب فيه الرجاء |
ومنها:
هذه أوقات الشهامة هبوا | وأسعفوا الجيش فهو عنكم فداء |
فابذلوا المال فهو يبذل عنكم | مهجاً تستباح منها الدماء |
هم يفادون بالحياة ففادوا | أنتم بالحطام يا أغنياء |
ساعدوا من يرى المنية أحلى | عنده من أن يعتريكم شقاء |
وخاطب الجيش يوم حرب البلقان سنة 1910م ودعا الناس للجهاد والتبرع فقال:
السيف يفعل ما لا يفعل القلم | فهو الذي في الوغى دانت له الأمم |
إن اليراع رسول للحسام فإن | لم يجد نفعاً فحد الصارم الحكم |
وخاطب الجيش بقصيدة رائعة فقال:
جردوا السيف فالحسام دواء | لا شفا دون أن تراق الدماء |
وإذا اعتلت الحياة بذل | فعلى الدنيا والحياة العفاء |
إنما الموت في الفراش امتهان | ولدى الحرب عزة وازدهاء |
فنه: كان رحمه الله هزار الأنس وبلبل دمشق الصداح، كلما ارتفع في طريق الإنشاد جلا وأثر شجوه ورخامته في النفوس، تلقى الفن الموسيقي وعلم النغمة والإيقاع ورقص السماح على أبي خليل القباني الفنان الأشهر رحمه الله، وكان يلازم من أهل الفن حلقة المرحوم العلامة الأكبر الشيخ عبد الرزاق البيطار الفنية، يتحاشى مجالس الطرب الخليعة احتراماً لمقامه الديني، له طريقة خاصة في إنشاد القصائد والموشحات والقدود الصوفية والشاذلية، وأكثر إنشاده من شعر ابن معتوق.
كان شاذلي الطريقة مداوماً على الإنشاد في حلقة الذكر الذي يقام في زاوية أبي الشامات الشاذلية بدمشق، والتي كانت تعج بالوافدين لسماع صوته الرخيم.
كان منقطعاً في حياته للمرحوم أحمد باشا الشمعة، فهو شاعره ونديمه الخاص، واتصل من بعده بولده الشهيد المرحوم رشدي الشمعة.
مواقفه الوطنية: لقد رسم المترجم في شعره صورة صادقة للأحداث السياسية في عهده ورأى شهداء العرب يعلقون على أعواد المشانق ذوداً عن حمى أوطانهم وكرامة قوميتهم، فسجل بطولتهم وخلد تضحيتهم بشعره البليغ، وقد اعتقل في عهد الانتداب الإفرنسي مع أخيه السيد محمد مدة أربعة أشهر في قلعة دمشق، فما لانت قناته ولم يثن هذا الضغط عزمه عن إظهار ميوله ومبادئه الوطنية، فكان شوكة دامية في وجوه المستعمرين وحرباً عواناً على مستثمري (الوطنية) الذين حاولوا إغراءه بشتى الأساليب، فباءت مساعيهم بالفشل والخذلان.
أوصافه: كان رحمه الله وسيم الطلعة طويل الهامة عظيم الجثة أشقر اللون مدور الوجه كأنه إطار ورد قرمزي يحيط به الياسمين، عزيز النفس محتقراً للدنيا، ما حسد إنساناً على نعمة ولا ركن إلى غرور، يعطي الناظر إلى صوته أصدق فكرة عن أجمل وجه أبدعه الله في خلقه، إذا مشى رمقته العيون وتلقاه الناس بالهيبة والتكريم، يتهاداه الكبراء والعظماء لسماع حديثه الساحر وصوته الرخيم الباهر. كان قبساً لا ينطفئ، إذا تحدث نطق بالأدب الرفيع وقذف بالنوادر كالدرر، كثير المراسلة والاختلاط بمحيط الشعراء والأدباء في عهده، كان ليثاً بصورة إنسان، والويل لمن عثر حظه وبلي بجفائه، ومن قوله في مناسبة وقعت معه:
عوى كلب عليَّ وليس بدعاً | فإن الليث تنبحه الكلاب |
وما عجزاً سكوني عنه لكن | نباح الكلب ليس له جواب |
وفاته: مرض رحمه الله بالسكري مدة أربعة أشهر فكان جباراً يقاوم المرض ويخدم نفسه في بيت أهله، ولما شعر بدنو أجله أشار إلى جرن كبة وقال لأخيه: ارفع هذا الجرن، فوجد تهته 42 ليرة ذهبية، فقال: هذا مال أوقاف جامع التيروزي، ويشهد ربي الذي سألقى وجهه ببراءة ذمتي من أموال الجامع وأوقافه وأوصاه أن يضع فوقها ثمان ليرات ذهبية ويسجله باسم الجامع فنفذت وصيته وهذا مثل رائع من عزة النفس والورع والأمانة، وفي ليلة الجمعة التاسع عشر من شهر محرم سنة 1348ﻫ ـ 1929م انتقلت روح هذا العالم والشاعر إلى بارئها، ودفن فوق والده بمقبرة (قبر عاتكة)، وأفاض الشعراء برثائه رحمه الله.
* * *