عبد الرحيم البابلي
عبد الرحيم البابلي([1])
شهيد المروءة والواجب الفنان الألمعي المرحوم الشيخ
عبد الرحيم البابلي
لقد قطعت على نفسي عهداً أن أعالج سير حياة الشعراء والفنانين بروح الصدق والحقائق المجردة، وأجدني مضطرًّا أن لا أعنى بترجمة أحد من الموتى والأحياء إلا إذا كان في ترجمته نبوغ فني وعبرة وذكرى للمجتمع، وإذا عدت السجايا المثالية بين البشر فسجايا الفقيد وأبرزها النجدة والشهامة ونكران الذات هي التي قضت على حياته وهو في عنفوان كهولته، فقد كانت مراحل حياته تفيض بالنبل والمروءة، فقضى نحبه شهيد الواجب وضحية النجدة في عهد عزت المروءة في النفوس، ولست أدري كيف أصف ما تركه من آثار والمجالس الفنية ما زالت تتعطر بطيب ذكراه وبفنونه الرائعة الزاخرة بالمشاعر والمعاني، ولم ينج من غدر الزمان، فقد كان في زمرة الفنانين الذين نكبهم الدهر بالأسى والحرمان.
أصله ونشأته: هو المرحوم الشيخ عبد الرحيم بن خالد البابلي، ولد بمحلة سيدي صهيب بحي الميدان بدمشق سنة 1876م، ودرس العلوم العربية وقواعدها وآدابها على العالم الشيخ محمد سليم سمارة، وتنقل في حلقات الدراسة فأخذ ما طاب له منها؛ كالنحلة التي تحوم فوق الزهور فتختار أشهاها طعماً وأعبقها أريجاً، هكذا اجتنى الفقيد العلوم في عصره فبرع بما أخذ وفاق، وكان الكوكب الساطع في المجتمع بمواهبه الفنية.
أوصافه وأحواله: لقد اعتراني اليأس والأسف وضاعت جهودي عبثاً في سبيل الحصول على صورته لإتحاف عشاق الفنون بها، وتعمقت بالبحث عن أطوار الفقيد وأوصافه، وأكد لي الذين عاصروه وكانوا على اتصال وثيق به أن له وجهاً ورأساً من خير ما أبدعته الطبيعة، طويل القامة، مرهف الملامح، فتان المحيا، ناصع البياض، شديد سواد الشعر، أسود العينين أدعجهما، يشع من عينيه بريق الأصالة والنجابة، تسامت نفسه بالعزة والكرامة، كثير العطف والبر لذوي القربى والرحم، تعاطى تجارة العطارة في محلة باب المصلى بدمشق، فكان راضياً بما قسمه الله من الرزق الحلال في حياته، وظل كذلك إلى أن التحق بالجنديةخلال الحرب العالمية الأولى.
ومن شمائله أنه كان بعيداً عن ملق الأدباء والفنانين، وعن الرياء الذي كانوا يعيشون في سجوفه.
نوادره الطريفة: كان بارعاً في أسر القلوب، لا تفوته النكتة في الظروف المناسبة، ومن نوادره الطريفة أنه دعي قبل الحرب العالمية الأولى إلى حفلة ضمت والي الشام وعظمائها، وقد تميزت بكثرة المدعويين من كبار تجار دمشق بمناسبة واقعية، وقد أنشد بصوته الرخيم الساحر بعض أبيات من نظم الشيخ عبد الغني النابلسي ضرب بها على الوتر الحساس، فكانت أروع نكتة، ظلت حديث المجتمع تتناقلها الألسن لإصابتها الهدف بأروع معناه وأحكم مغزاه في ذلك الموقف الملائم، منها قوله:
وبمهجتي والروح أفدي تاجراً | يخفي ببهجته سنا الأقمار |
سمحت محاسنه برؤية وجهه | ومن العجيب سماحة التجار |
الحالة الاجتماعية في عهده: كان أديباً فصيحاً إذا تكلم فمنطقه من جوامع الكلم، ولعمري إن كان للوراثة أثرها في البيئة الاجتماعية والخلقية فقد صدق المثل، وحق للأستاذين الألمعيين نصوح وحمدي بابيل أن يتيها اعتزازاً وفخاراً بخالهما الفقيد، فقد ورثا عنه فصاحة المنطق والكرم الحاتمي وسمو الذوق وجمال الخلقة والخلق.
لقد كانت هنالك ظاهرة كامنة في نفسه تثور طوراً وطوراً تخمد، ولطالما تمنى لو تحققت أهدافه بالأماني، ولكن كيف يتسنى له الخروج عن التقاليد الاجتماعيةوهي تحول دون ما تصبو إليه نفسه الوثابة في السير قدماً نحو التجدد والعصر في عهد قد اتسم بطابع الجمود والتعصب، ومرت عليه أحداث قيل عنه وعن أبي خليل القباني الفنان الأشهر الذي اقتدى الفقيد بآثاره وتعاليمه أكثر مما قاله مالك في الخمر، فلم يخش العاقبة، بل ادرع بإيمان قوي وعزم يصارع أحداث التجدد وتطوراته، ثم وقعت الحرب العالمية الأولى فقضت على أحلامه وأمانيه، وانشغل الناس بما هو أدهى وأهم.
فنونه: إذا أراد الله الخير للإنسان حباه بالمواهب وجعل أفئدة الناس تهفو إليه، لقد كان الفقيد فريداً بصوته النادر إذا غنى كالعندليب، فكم بتموجات صوته ورخامة نبراته وروعة إلقائه أشجى القلوب وأبكى العيون، واسع الاطلاع والعلم بقوافي الفن ورقص السماح الشائع في عهده، تزخر ذاكرته بأخبار العرب ونوادرهم وتراثهم الشعري والأدبي، يهوى شعراء الصوفية ويحفظ قصائدهم وموشحاتهم، وينتقي منها أبدعها نظماً وأقواها في النفوس تأثيراً وسحراً فيلحنها، يميل بألحانه إلى النغمات الحجازية وللصبا والرست، غناؤه طالما ترنمت له الأعطاف، ونغماته الشجية طالما اهتزت للحنها المشاعر، تتهافت العظماء والكبراء للاجتماع به وسماع صوته وحلاوة حديثه وطرائف نوادره. فقد سافر إلى مصر ومكث فيها مدة ثلاث سنوات على إثر مجيء الشيخ سلامة حجازي لدمشق، وتعرف على أشهر الفنانين واستفاد من فنونهم.
ومن اجتماعاته الفنية المشهورة أن المرحوم الملك عبد الله بن الحسين زار دمشق قبل الحرب العالمية الأولى وكان مبعوث الحجاز في مجلس المبعوثان التركي،وحل ضيفاً عند عطا باشا البكري، ومن ثم دعاه أحمد باشا الشمعة إلى داره، وأقام له حفلة ما فتئ الناس يتحدثون بعظمتها وروعتها، وكان الفقيد رحمه الله بلبل الحفلة وغريدها الساحر، فأنشد أمام الضيف العظيم بعض أبيات من قصيدة قديمة نظمت بمدح جده الرسول الأعظم، منها قوله:
وما مصدر الأشياء إلا محمد | وناهيك طول المدح فيه قصور |
بدائرة التكوين نور جماله | عليه جميع الكائنات تدور |
وروى الذين حضروا الحفلة التاريخية المذكورة أن الملك عبد الله شكر المترجم بصوت متهدج وقد غلبته العبرات من روعة التلحين وبراعة الاختيار.
كان إذا تردد للإنشاد في الأذكار غصت التكايا بالسامعين من عشاق فنه، كثير الاتصال بحلقة العلامة والفنان المشهور الشيخ عبد الرزاق البيطار الدمشقيالفنية، ومن عاداته أنه إذا أراد الراحة انعطف لواد وسيم سح فيه الماء واعتل النسيم، فحامت فوقه البلابل تشاركه الألحان والتنغيم.
وقصد مرة مع فريق من أصحابه رياض وادي بردى، فتجلت عليه نشوة الفن واستهوته المناظر الخلابة، فغنى هذا الموشح الرائع، وهو عروض لموشح أبي خليل القباني (الغصن إذ رآك مقبلًا سجدا) فقال:
عيني نظرت لنحو شاطئ بردى | ظبياً نظم الحسن بفيه برَدَا |
يا من بصدوده رماني بِرَدَى | لو يسمح لي لهيب قلبي بِردَا |
فهل رأيتم أبدع من هذا الجناس الذي يعطي صورة واضحة عن شعور المترجم وسلامة ذوقه في انتقاء ألحانه بمعان درية بليغة، ثم يعقبه بدور (فؤادي بالأحبة ما تهنى) المصري المشهور.
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر: إن سجلت المراثي بنسبة الفواجع فحق لمرثية الفقيد أن تسجل بدم الأجفان، إن القلم ليعجز عن وصف الوقائع التي أودت بحياته، لقد استبعد قادة الجيش الفقيد الفنان عن ساحات القتال في الحرب العالمية الأولى ضنًّا بحياته، فودعوها هبة ومشاعاً للمجتمع، واستخدموه بالفرع الصحي في المستشفى العسكري بدمشق لينعموا بصوته وفنونه وأنسه، فقد كانوا يرون بوجوده بالقرب منهم بلسماً لأفئدتهم وعزاء لاغترابهم ووحشتهم، ولم يدر أحد ما تكنه صفحة القدر الغادر من مفاجئات موجعة.
كان رحمه الله كالطود الشامخ ممتلئاً قوة وصحة، وتفشت الحمى في البلاد العثمانية حتى غصَّت المستشفيات بالجنود المرضى، فكان يقوم بواجبه الإنساني ويشرف على إسعافهم وراحتهم بنبل وحنان، وفتكت الحمى فتكاً ذريعاً حتى بلغت الإصابات اليومية بالمئات بين الجنود، وتطرق الوهم إلى النفوس وخشي الناس والجنود الأصحاء شر العدوى، فكانوا يتهربون من حمل الموتى ونقلهم إلى المدافن، وعاتب الفقيد من تغلب عليهم الوهم والوهن قائلاً: (إن خشيتم العدوى وتهربتم من حمل إخوانكم الموتى فمن يحملنا إذا نحن متنا)، وهكذا قضت إرادة الله فأصيب الفقيد بعد فترة بعدوى الحمى، فقضى نحبه شهيد الواجب والنجدة الإنسانية، ونقل جثمانه في يوم عبوس محزن فدفن في مقبرة الشيخ رسلان، وذلك في 26 كانون الثاني سنة 1916م باحتفال مهيب، وضم لحده عنصراً كريماً تجلت فيه الشهامة المثالية، ووقف على قبره الملتاعون بفقده من قادة الجيش يودعون بأسى وخشوع كوكبهم الدري وسميرهم في نجواهم، ومن سعدوا بقربه وصوته ولياليه النيرات، وعبُّوا من رحيق فنونه المسكر حتى الثمالة بزفرات ملتهبة ووابل من عبرات سخية بلت ثراه العطر ندى ورحمة، وأفاضت صحيفة المقتبس بعددها المنشور بتاريخ 26 كانون الثاني سنة 1926م ورقم 1807 والأدباء برثائه البليغ.
وقد ذكر المرحوم الأستاذ محمد كرد علي في مذكراته أن المترجم قد أنقذه يوم فراره، وأنه كان من مؤسسي حزب الأحرار المعتدلين، ويحمل رقم (38)، وأن بيته كان ندوة لأهل الفن ولشباب العرب من الرعيل الأول في الحركة الوطنيةأمثال شكري العسلي، ورشدي الشمعة، وعبد الوهاب الإنكليزي، والدكتور طاهر الجزائري، رحمهم الله.
* * *