عبد الرحيم قليلات
عبد الرحيم قليلات([1])
(1884 ـ 1942م)
مولده ونشأته: هو عبد الرحيم بن مصطفى بن محمد قليلات الحسيني، وأصل الأسرة من طرابلس الغرب، استوطنت بيروت منذ مئتي سنة، وهي تنحدر من صلب جد واحد مع أسرتي النعماني وعلم الدين، ولد المترجم في 21 آذار سنة 1884م في مدينة بيروت، وقد كان الجد الأكبر محمد من كبار تجار بيروت، واتسع ثراؤه.
لم يهتم والد المترجم بدراسة العلوم، فقضى حياته في البذخ واقتناء الجياد الأصيلة والصيد، متمسكاً بأهداب دينه وأخلاقه الفاضلة.
اتصل المترجم بأخواله من أسرة آل دبوس وهم على شيء كبير من الثقافة والعلم والأدب، ونما في روحه حب اكتساب العلم، ولقد حدث بينه وبين والده مأساة أدت إلى نزوحه؛ لعدم اتباعه رأي والده والعيش كما عاش هو، والمترجم يرغب في تحصيل العلوم، وقد نال الشهادة من الكلية السلطانية في بيروت سنة 1901م، ودرس اللغة الإنكليزية وأتقنها في الجامعة الأمريكية في بيروت التي كانت يغلب عليها صفة التبشير أكثر منها اليوم، ولأسباب ما لم يتم دراسته فيها.
نزوحه: لم يخضع المترجم لرغبة والده بالكف عن الدراسة، ففضل النزوح، وسافر وهو في التاسعة عشر من عمره إلى مصر، وعمل كمدرس فيها من سنة 1902م إلى 1905م، واستفاد من ملازمته الأزهر تلقي العلوم، وهناك بدأت حياته الأدبية باتصاله بحلقات العلماء والأدباء كالمرحوم الإمام محمد عبده وأترابه، ثم دخل خدمة الحكومة السودانية سنة 1905م بمديرية الملاحة وترفع، وأصدر جريدة رائد السودان من سنة 1911 إلى 1914م.
واقترن في سنة 1907م بامرأة جركسية وأنجب بكره المرحوم مصطفى.
عودته إلى وطنه: وفي سنة 1914م عاد إلى بيروت، ولما وقعت الحرب العالمية الأولى التحق بالخدمة العسكرية وكلف بالسفر إلى طرابلس الغرب بمهمة رسمية، ونظراً لسياسته المعاكسة فقد قبض عليه الإنكليز في عرض البحر وبقي أسيراً لديهم من سنة 1915م إلى 1919م، حيث عاد إلى بيروت سنة 1920م. وقد تعلم في الأسر اللغة الألمانية من أسرى الضباط الألمان وأتقنها، وكان يجيد اللغات الإنكليزية والتركية والفرنسية، ودرس على نفسه الفارسية والعبرية، ودرس اللغة اليابانية أثناء إقامته في اليابان أربع سنوات لتعاطي التجارة.
في خدمة الدولة: وفي سنة 1920م عين رئيساً لمفتشي البلدية في بيروت وبقي فيها مدة سنتين، ثم عهد إليه بمديرية الشرطة والأمن اللبنانية، وبقي فيها حتى سنة 1929م، وبعدها عين مراقباً للشركات ذات الامتياز من سنة 1930م إلى 1932م.
رحلاته: زار أوروبا لما كان في السودان، وبدأ رحلاته الكبرى سنة 1933م، فزار الهند وسيلان وأندونيسيا، وأقام فيها ما يزيد عن سنة ونصف، ومنها توجه إلى اليابان وأقام فيها مدة أربع سنوات تخللها زيارات لأمريكا وإفريقيا الغربية، وعاد لبلاده سنة 1938م.
وقد ألقى محاضرات عديدة في أمريكا الشمالية حاول فيها تعريف الأمريكان بالبلاد العربية، وعلى قضايا العرب السياسية والاجتماعية، وقد حاول محاولات يائسة أن ينشر في الجرائد بعض المقالات السياسية عن فلسطين، ولكن دون جدوى؛ لأن الجرائد ممولة من قبل اليهود. وقد ألقى محاضرات في إفريقيا الغربية، ورحبت به الجاليات العربية هناك، وفي إفريقيا تعرف على اللبناني الوجيه السيد جميل حرب، وقد اقترن بكريمته أسما سنة 1936م، ودعته جمعية أدبية في ليبريا للمحاضرة باللغة الإنكليزية، فوقف دون استعداد وأخذ يفيض كالينبوع الرقراق، وتطرق إلى مواضيع شتى بلغة فصحى أثارت الإعجاب والدهشة، ودعا إلى الجهاد وحفظ الاستقلال الليبري، واشتهر بإلقاء محاضراته الكثيرة في الجامعة الأمريكية، وفي مدرسة الحكمة والمحافل الماسونية.
أدبه: كان شاعراً أصيلاً ملهماً يصوغ قوافيه صياغة فنية بارعة، وله خواطر لامعة في نقد المجتمع وأحوال الناس بوطنية صادقة وإخلاص مثالي، وفي قصيدته (ليلة القدر) وقد قرظها الشاعر العبقري عباس محمود العقاد من المعاني ما يدل على عظيم شاعريته.
كان يعالج المواضيع الاجتماعية بقلب الشاعر الصادق المتوجع، وهذه قصيدة (مستشفى بيروت الإسلامي) وقد تجلت فيها عواطفه ومشاعره ونبل مقاصده، ومطلعها:
من البرج في كانون والليل خيما | تسكع حتى جانب السور وارتمى |
فأسرعت تحت السيل والبرد قارس
| فأدركته مغمى عليه مهشماً
|
شحوب على غصن الشباب ومسحة | من الحسن في أطمار بؤس تجسما
|
ومنها:
فقير ولا من موئل فيؤمه | على الأرض من ضاقت به الأرض والسما |
وكان هذا المريض المتسكع من مدينة حماة، فأشفق عليه ووصف كيف رفض قبوله مستشفى الحكومة، والشاعر يرى أن حماة سورية، وبيروت لبنانية، ولكن في خريطة السياسة لا في خريطة العالم، فيقول في ذلك:
مريض ومستشفى أولي الأمر رافض | غريب الحمى إذ أن موطنه «حما» |
ويصف في هذه القصيدة البليغة في معانيها إهمال الحكومة في إسعاف المرضى، ويهيب بذوي الأريحية لإغاثة المنكوبين في إشادة مستشفى يضم الفقراء والتعساء.
وينصح الشاعر الناس بالتمسك بالحلم والرضا في الحياة فيقول:
هون عليك ولا تضق صدراً | فالحلم آية عيشك الكبرى |
ما أظلمت إلا لتبعث من | ظلمائها الدنيا لك الفجرا |
كلا ولا العسرى طغت وبغت | إلا لتعقب نعمة اليسرى
|
لا تحك عصفور الحديقة في | بلواك بل كن ذلك النسرا |
وألقى سنة 1934م في حفلة جمعيتي زهرة الآداب والعروة الوثقى في الجامعة الأمريكية في بيروت قصيدة فيها صورة صادقة عن أخلاقه وصدى أفكاره وعواطفه نحو وطنه، ودعا إلى الاتحاد ومقت التعصب فقال:
أرقت وهاجتني وقد هجع الركب | عواطف يهوى سلب راحتها الحب |
عواطف تستجدي رضا كل غادة | ولكن إلى غير ابنة العرب لا تصبو |
وعذري فيها أنها عربية | وأعمامها عرب وأخوالها عرب |
وليس لها ذنب سوى طيب فعلها | وطيب فعال الحر في أرضنا ذنب |
ومنها:
ومنوا على أوطانكم باتحادكم | فليس على سهل اتحادكم صعب |
لقد أزهقت روح التعصب روحنا | وحق على أوطاننا النوح والندب |
وقد نظم الكثير من الموشحات البديعة والأناشيد الوطنية الشهيرة، ويعترف الشاعر بفضل أستاذيه الأكبرين الشيخين عبد الرحمن سلام ومحيي الدين الخياط بتثقيفه بالأدب.
لقد طبع ديوانه (الهيام) سنة 1932م ونفذت نسخه من المكاتب العامة.
وفاته: وفي شهر حزيران سنة 1942م استأثرت به المنية، وقد دفن في مقبرة الباشورة، وأقيم له مأتم رسمي وشعبي حافل.
أنجب مصطفى، وقد توفي في ريعان شبابه، ورشيد، وهو موظف.
* * *