جاري التحميل

عبد الرزاق البيطار

الأعلام

عبد الرزاق البيطار([1])

العلامة المتفنن المرحوم الشيخ عبد الرزاق البيطار الدمشقي

حياة البشر في هذه الدنيا الفانية ظهور وانطواء، بل أجيج وانطفاء، هكذا قضت إرادة خالق البشر ومبدع الأكوان، يوسد المرء في لحده فيفنى ولكن آثاره تبقى ومناقبه تذكر، يموت العلماء فتحيي المكارم والفضائل ذكرهم، وينطوي العباقرة فلا يطوي الدهر مآثرهم، وما أنشئ التاريخ إلا ليخلد ذكرى من يحق لهم الخلود، وليكونوا تذكرة وعبرة لمن يأتي من بعدهم، ومن هذه العناصر النادرة عمدة الإسلام المرحوم الشيخ عبد الرزاق البيطار الدمشقي.

لقد تحدث عنه حفيده الشيخ بهجت البيطار، إلا أنه لم يتطرق لذكر مواهبه كفنان ألمعي، فرأيت أن لا يغمط حق هذا العلامة النابغة وأن أكشف اللثام عن ناحية مغفلة في تاريخ حياته، فقد كان حقًّا من أندر الرجال، وإنه فضلاً عن كونهعميد العلماء فإنه أيضاً مرجع الفن والفنانين في عصره، إلا أن نبوغه العلمي وجلال قدره قد طغيا على شهرته الفنية، فبرزت آيات علمه المبين وسطعت، وانطفأت شعلة فنه ومواهبه فاندرست.

أصله ونشأته: هو المرحوم عبد الرزاق بن حسن البيطار، بزغ هذا البدر في سماء دمشق سنة 1253ﻫ ـ 1834م، وحق لهذه الأسرة العريقة بتليد مجدها وطارفه أن تتيه عجباً بما أنجبته من نوابغ العلماء، فالفقيد العظيم كان أحد بدورها النيرة، خفقت رايات علمه في الآفاق فأنارت سبل الهدى والرشاد، وتجلت صروح الحق المبين في تعاليمه فكانت خير قدوة للإصلاح في عصر عزَّ فيه الفهم والإدراك، انحدر من شجرة مباركة ثابتة الأصل سامية الفرع يانعة الثمر، تلقى على والده وشقيقيه رحمهم الله ـ وكانوا من فطاحل العلماء ـ شتى العلوم، ولازم دروس العلامة المحقق الشيخ محمد الطنطاوي، فأكمل عليه العلوم العربية والشرعية، وعلم الميقات والفلك والحساب، فتجلى فيها نبوغه الباهر وأسلوبه البارع، وارتشف من منهله آلاف الخلائق فأفادوا المجتمع.

صدعه بالحق واجتهاده: لازم الفقيد المرحوم الأمير عبد القادر الجزائري الملازمة التامة، وأخذ عنه الفصل بالعدل في القضايا العامة، إذ كان الأمير المرجع في حل الخصومات الواقعة بيت الناس، يحيل المتخاصمين إلى الفقيد فيكون قوله الفصل بإجراء الحكم على سنة العدل، ومن أبرز ما حلَّ بساحته من الحوادث والمتاعب في حياته أن عصر المرحوم الذي تلقى فيه دروسه الشرعية كان عصر جمود على القديم، فكانت الأقوال تلقى بالتسليم من دون تمحيص للصحيح من السقيم، فاستمر الفقيد على طريقة معاصريه متأثراً بها إلى أن ألهمه الله الأخذ بالكتاب والسنة وعدم قبول رأي أحد من دون حجة، فكان رحمه الله أول العلماء الذين أخذوا بالدليل، وجاهد في هذا السبيل، ورفع فوق رؤوس أهل الحق راية السنة والتنزيل.

صبره واحتسابه: لقد مكنه الله من العلوم وأسرارها فحلق بجهاده العلمي فوق هامة الاجتهاد والتشريع، ومرَّ عليه كما مرَّ على فطاحل الرجال وأساطين العلم والحكمة قديماً وحديثاً كثير من المصائب والفتن، فكان بها مثال المستكن للصبر والثبات، وعرضة للمراقبة في العهد التركي، فقد تجنى المفسدون وتحاملوا عليه بالإفك والأباطيل، وفتشت داره وكتبه مرات فما عثر عنده على شيء يتخذ ذريعة لاضطهاده وإيقاع الأذى به، فطاش سهم المدلسين وباؤوا بالفشل الذريع.

أوصافه وشمائله: كان المرحوم طويل القامة جميل الطلعة، عظيم الهيبة، كأن وجهه ورد يحيط به الياسمين من شيبته الناصعة، جليل القدر والوقار، يكاد سنا برق جماله وجلاله يذهب بالأبصار، كلامه كالسحر الحلال، فصيح اللهجة، قوي الحجة، غزير المادة، إذا ناظر أو ساجل فهو البطل المغوار والبحر الزخار، يراعي في مجلسه الطبقات، ويعطي كل إنسان نصيبه من الالتفات، واسع الصدر، يغضب للحق ولا يغضب لنفسه أبداً، كان من أهنأ الناس معيشة، جامعاً بين التمتع بالطيبات وتقوى الله، كريماً مضيافاً، ليس في وسعي أن أحيط بمكارم أخلاقه، لو أردت أن أعدد مآثره ومناقبه لطال بي المجال، فهو ملك في صورة إنسان.

ولعمري إن كان للورثة تأثيرها في الأخلاق والتوجيه، فإن الأستاذ الحفيد الشـيخ بهجت البيطـار قـد ورث عـن جـده العظيم فقـه النفس، وحسن الهدي والسمت، وجلال القدر والشمائل المحمدية.

رحلته إلى استانبول: لقد سافر المترجم رحمه الله إلى استانبول مع وفد دمشقي لمبايعـة السلطان محمـد الخامس وتقديـم واجبات التهاني والتبريك، فرحبت به الصحف التركية، وألمعت عن نبوغه العلمي وأدبه الرفيع، وقد أقام بضعة أشهر تعـرف خلالها علـى كبـار العظماء والعلماء الأتراك، وكان أينما حل يلقى التحية والتكريم، ثم عاد إلى دمشق فتلقاه أهلها بالشوق والتعظيم.

شعره ومؤلفاته: كان الفقيد آية باهرة في شتى العلوم، أما في النظم فقد وضع يده على أعنة البيان، بيته كعبة العلماء والشعراء والأدباء والفنانين، وقد توثقت بنيه وبين الشاعر الهلالي الحموي لما أقام بدمشق عرى المودة، فوصف أدب الهلالي وروعة بيانه فقال:

إذا ما قيل من في الناس طرا

أديب قد رقى أوج الكمال

تفرد في بديعات المعاني

ينظمها كتنظيم اللآلي

له خضعت أولو الآداب حقًّا

أقول محمد الحموي الهلالي

أما الغزل والوصف فله جولات بارعة، منها قوله:

رأى الأحداق تقطف ورد خد

صبت أهل الهوى ميلا إليه

أسالوا ذوب أكباد دموعا

وبادوا من صوارم مقلتيه

فخاف على المحيا مذ رأوه

فأوقف خاله حرساً عليه

وقال مرتجلاً في مجلس ضم بعض الشيوخ الشيب فأجاد:

شُغفت به رشيق القد ألمى

يعذبني بهجران وبين

وقال احمل مشيباً مع سهاد

فقلت له على رأسي وعيني

وله قصائد بديعة وتخاميس وتشاطير متنوعة، وقد ألف بضعة عشر كتاباً بعضها ديني وأكثرها أدبي، وأكبرها تاريخه في رجال القرن الثالث، ذكر فيه مشاهير الرجال، ولم يطبع بعد.

فنونه: وشاء الله أن يجعل المترجم كامل الأوصاف الحميدة، فوهبه فوق سعة علمه جمال الصوت، فكان عليماً بالنغمات وأصول التلحين والأوزان الموسيقية، ومن مبدعي الألحان، تلتف حوله حلقة موسيقية تضم أصحاب الأصوات البديعة النادرة والمواهب الفنية، منهم الشيخ عبد الرحمن القصار الشاعر المتفنن، وحسينشاشيط، وعبد الرزاق العش، وعبد الرحيم البابلي، وجميل الإدلبي، وعبد الله حرب، ورشيد عرفة، وتوفيق الحسيني، وعمر الجراح وشقيقاه، فإذا انتهوا من سماع دروسه ومواعظه العلمية انثنوا إلى السماع وإنشاد القصائد والموشحات الصوفية تشبهاً بما كان يفعله المرحوم الشيخ عبد الغني النابلسي الشهير رحمه الله وتلامذته.

 ومن مواقفه الفنية أنه اجتمع بأبي العينين، وهو فنان مصري كان زار دمشق في عهده، فاستضعف هذا شأن الفنانين بدمشق، فلما اجتمع بالمترجم ورأى قوة فنه استصغر نفسه واعترف بعظمة الفقيد الفنية.

ومن نظمه وألحانه موشح من نغمة الراست:

مرَّ بي ظبي رشيق

قد رماني بالجفون

صحت وجداً وغراما

آه من سحر العيون

زهـده فـي الوظائـف وخدمتـه للعلـم: كـان المرحوم بعيداً عن التربع في المناصب والاغترار بالمظهر الكاذب، لا يحفل بالحكام والكبراء، ولقد عرض عليه عدة وظائف في الإفتاء والقضاء فرفض كل وظيفة غير خدمة العلم الصحيح ونشره بين طبقات الأمة بالتعليم والإرشاد والتصنيف، كان يلقي دروسه العامة في جامع كريم الدين الشهير بالدقاق في محلة الميدان، ودروسه الخاصة في حجرته من ذلك الجامع وفي بيته أيضاً، وقد انتفع بفضله وثقافته كثير من الطلاب.

وفاته: لقد انطوى ذلك العالم العظيم على محاسن الأخلاق وطهارة الأعراق والمناقب المحمدية، وأهدى المجتمع أفضل التوجيهات وأسمى الإرشادات، أدركته الشيخوخة وهو قوي الجسم والعقل والذاكرة، وفي عاشر ربيع الأول سنة 1335ﻫ ـ 1916م وافاه الأجل المحتوم، ففارق الدنيا إلى دار النعيم، ودفن بمقبرة أسرته في الميدان، وأعقب ذرية صالحة، وأسبغ الله عليه الرحمة.

*  *  *

 



([1] (أ) (1/ 220 ـ 222).

الأعلام