جاري التحميل

عبد الرزاق الجندي

الأعلام

عبد الرزاق الجندي([1])

الحاكم والفارس الشهيد الخالد بشعره وفنونه
عبد الرزاق الجندي العباسي الحمصي

كلما تعاقبت الأيام وتوالت السنون تجلت ذكريات أفذاذ الرجال ماثلة أمام العيون، لقد كان من العجب أن لا تظهر العبقرية إلا مع الألم، لكن الدهر قد شذ عن هذه القاعدة النادرة وأنجب الشهيد عبد الرزاق الجندي قبل قرنين، فقد رضع ثدي المجد في مهده، وأتته العبقرية ترفل بحلل العز والسيادة.

فكان حاكماً لبقاً وغنيًّا في المال، سمت به مكارمه إلى ذروة الفضائل، وشاعراً بليغاً ضرب على مفرق الفرقدين قباب بيانه وسحر فنونه، وفارساً شجاعاً كان المثل الأعلى في التضحية ونكران الذات.

وما كان للعواطف أن تزلزل هذا الجبل الصلد الأشم، وللدهر أن يثلم هذا المهند الصارم، لولا أن الأقدار شاءت أن يكون شهيد الواجب في ميدان الشرف، فإنه لم يجزع حين فاجأه الموت على حين غرة لم يسبقها نذير، ولا عيب فيه سوى الكمال، وأنه يتحدى كل ألم بين طيات الجوانح، وهو فرع لحق في الفخار أصله العباسي، تلقى طعن الرماح فمضى ولم يتقهقر، وهذا شأن الهاشميين وسر عظمتهم، فلم يسمع التاريخ أن هاشميًّا ولى الأدبار في ساحة الوغى.

أصله: هو عبد الرزاق بن محمد الجندي العباسي، ولد في حمص سنة (1150ﻫ ـ 1731م)، ونشأ في حجر والده على العفة والصيانة، وقد كان حاكماً في حمص فأحسن تربيته وتثقيفه، وتلقى العلوم على أفحل علماء زمانه، فكان نابغة في عصره في الذكاء والسخاء والفروسية والعلم والشعر والفن، أخذ الأدب عن الشيخ عمر الإدلبي نزيل حمص، وبرع بنظم الشعر وهو فتى، فكان آية في النبوغ والنجابة، وكان يحب مذاكرة العلماء والأدباء والشعراء، منهم الشاعر المرحوم عثمان المعرواي الحمصي الشهير، والشاعر العراقي المرحوم محمد سعيد السويدي الذي أبعدته الدولة العثمانية لزعامته ونفوذه عن بغداد، فاختار حمص مركزاً لإقامته الإجبارية فيها؛ لوجود صلة في النسب بين عائلة الجندي التي كانت غادرت العراق إلى سوريا إبان الاحتلال المغولي إليها وبين عائلة السويدي العراقية، وهما تنحدران من السلالة العباسية كما هو ثابت ومنقول.

وكان هؤلاء الشعراء يتنادمون وتجري بينهم المطارحات والمساجلات الرشيقة الارتجالية، نذكر منها بعض الشيء لطرافتها:

السويدي:

وإذا مواهب عابد الزراق قد

حلت على الأعمى غدا كبصير

البصيري:

وإذا أراد الله إصلاح امرئ

جعلت بصيرته من الإكسير

الجندي:

وإذا تولى القلب منه عناية

جذبت به العليا من التأخير

ومنها مساجلة ثانية على قافية أخرى:

السويدي:

وخال عبير صار قلبي له لظى

وجسمي وأضلاعي مجامر نده

الجندي:

أعاد لها من مقلتيه تكحلا

وأسبل في الظلما سوابل جيده

البصيري:

سبى قاصرات الطرف بالخصر رقة

وحير أرباب الحمى عقد بنده

حاكم قلعة تلبيسة: لقد رأت الدولة العثمانية إقامة قلعة حصينة في قرية تلبيسة، وهي تبعد زهاء ثمانية عشر كيلو متراً عن حمص، فشيدها المرحوم محمد الجندي والد الشهيد المترجم بأمر من الوزير سليمان باشا العظم والي الشام، ورابطت فيها قوة عسكرية مهمتها حفظ طرقات الحج.

وربما لا يصدق القارئ أن شؤون حمص وحماة الإدارية والعسكرية في ذلك العهد كانت مرتبطة إلى وقت ما بحاكم قلعة تلبيسة، وقد لعبت دوراً هامًّا من ناحية استتباب الأمن، فمركزها المشرف على وجه الصحراء كان له أعظم الأثر في صيانة الأمن وطرقات الحج، تمتد حدود نفوذها من الشمال إلى منطقة خان شيخون ومن الجنوب إلى قرية حسية، ووقفت قوى هذه القلعة سدًّا منيعاً وحائلاً دون تعديات العربان الذين كانوا يعيثون فساداً في الأرض، ويعتدون على أهل القرى والمستطرقين بالنهب والسلب والقتل كما هو شأنهم إذا آنسوا ضعفاً من أولي الأمر.

ثم تبدلت الأوضاع الإدارية في ذلك العهد فتولى المترجم حاكمية حمص وحماة ومعرة النعمان من قبل الباب العالي، وكان المرحوم أحمد باشا المؤيد العظم آئنذ والياً على الشام.

العلاقات بين عائلتي العظم والجندي: إن العلاقات الودية وثيقة موروثة بين هاتين العائلتين وترجع إلى عهد بعيد، وآل العظم متعصبون في تقاليدهم العائلية لا يصاهرون إلا من كان ندًّا لهم في كل شيء، ولا تزال توجد حتى الآن علاقات وراثية بين العائلتين في معرة النعمان، وقد قضت مصلحتهم وهم حكام البلاد أن يختاروا من يثقون بإخلاصهم وحسن إدارتهم من العناصر العريقة بمجدها وسؤددها، فيولونهم الحاكمية بالوراثة.

الحاكم الشهيد: وفي سنة 1189ﻫ قام عرب الحيارى المعروفين بالموالي ـ وكانوا يقيمون فيما بين معرة النعمان وخان شيخون ـ بأعمال مخلة بالأمن، فانتدبت الحكومة المرحوم عبد الرحيم بك العظم لتأديبهم وجهز حملة عسكرية كان الفقيد الشهيد مع قواته العسكرية فيها باعتباره الحاكم المسؤول عن الأمن في منطقة نفوذه، ولما أشرفت الحملة على منطقة العرب أطبقت عليها جموعهم من كل صوب ودارت رحى المعركة، فانهارت على المترجم طعنات الرماح وأصابته طعنة في عنقه أردته قتيلاً، وذلك في اليوم الحادي والعشرين من شهر ربيع الثاني سنة 1189ﻫ و1770م، ونقل إلى حمص واستقبل جثمانه في يوم كان عبوساً محزوناً، فدفن في مقبرة عائلته بالقرب من مقام الصحابي الجليل خالد بن الوليد، وسقت العبرات التي استدرها نشيج الملتاعين جدثه الطاهر، فقطع نياط القلوب أسًى وحزناً على فقيد شاب، وقتل كذلك المرحوم عبد الرحيم بك العظم المشهور بين أقرانه بالشجاعة والفروسية، ودفن بالقرب من قرية التمانعة التابعة لقضاء معرة النعمان، وقبره ما زال معروفاً هناك.

مصادرة أملاكه: وعينت الحكومة خلفاً له أحد أركانها وهو مسعود بك نجل الصدر الأعظم بذلك التاريخ، فقام بتصفية تركة الحاكم الشهيد، وصودرت جميع أملاكه ومنقولاته، وهي عادة كانت متبعة في العهود الماضية عند مقتل الحكام، وكان من جملة المنقولات الثمينة المصادرة مكتبته النفيسة ومؤلفاته الشعرية التي فقدت ولم يبق إلا ما كان منقولاً ومحفوظاً منها بصورة متفرقة لدى المعجبين بشعره. وقد جردت الحكومة السرايا للانتقام من الطغاة.

ثم عجز مسعود بك عن إدارة الحاكمية، فاستقال وعهد إلى شقيق الفقيد المرحوم خالد الجندي ـ وهو والد الشاعر العبقري أمين الجندي ـ بالحاكمية، ولما بلغ المرحوم عثمان بن الحاكم الشهيد أشده تولى منصب الحاكمية.

أوصاف الشهيد: إن القلم ليعجز عن ندب النوابغ ووصف هذه المأساة، لقد غاض ذلك النبع الفياض وكان منهلاً عذباً بشعره وفنونه، وانطفأت تلك الجذوة التي كانت تتقد وهو في ريعان الشباب.

كان رحمه الله عالي الهمة، فاتن المحيا، يكاد وهو جالس يقرع الرجال وهم قيام، طلق اللسان، طيب القلب يعفو عند المقدرة، يخاطب الناس بفصاحة تنفذ إلى القلوب، ويعمل فيها عمل السحر في النفوس.

يحمل في نفسه حب الخير والإصلاح، ثابت الجنان، والسر في عظمة هذا الشهيد أنه يحمل أقدس وأشرف لقب منحه الدهر لأسرته المعتزة به كابراً عن كابر، وهو لقب (الجندي).

لقد كانت سيرته ينبوعاً لا ينقطع انصبابه، وإنا لذاكرون للقراء أمثلة من نبوغه لعل بعضها لم يعرف من قبل.

شعره: لقد هوى على الثرى أسطع نجم ظهر في سماء الشعر والفن، فقصائده ذات معان أرق من الهباء، وألطف من النسيم، وكان الشيخ أمين الجندي الشاعر الخالد في التاسعة من عمره لما قتل عمه الحاكم المترجم، فلما شب واطلع على بعض منظوماته كان يقول: (عمي سيد الشعراء)، ولم ينقطع عن ندبه طول حياته.

وقد خمس الشيخ أمين قصيدة عمه، وهي من أروع قصائده الغزلية ومنشورة في ديوانه، منها قوله:

فلا ترجو من أضحى التعنُّت مَنَّه

وإن جاز فاحذر منه يا صاح مَنَّه

وثق بولي الحمد واستجر مَنَّه

ألم تر أن الدر عز لأنه

على خطر من يبتغيه من البحر

فالشاب الشهيد هو جدي الرابع، وإني لا أخاف عليه عذاب السعير، فهو من أهل الجنة، وكفاه شرفاً وخلوداً وعفواً من ربه تشطيره البليغ لقصيدة كعب بن زهير الشهير التي مدح بها الرسول الأعظم، وهي طويلة اكتفيت منها بهذا القدر:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

وكيف لا وفؤاد الصب مشغول

وإنني من غرام قد ولعت به

متيم إثرها لم يفد مكبول

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا

إلا مهاة لماها فيه تعسيل

ولن يماثل أعطافاً لها ظهرت

إلا أغن غضيض الطرف مكحول

تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت

منه الشفاء لقلب فيه تعليل

سلافة قرقف قد سيغ مشربه

كأنه منهل بالراح معلول

شجت بذي شيم من ماء محنية([2])

مذاقه فيه للأرواح تجذيل

كأنما ريقها المعسول مذ رشفت

صاف بأبطح أضحى وهو مشمول

تنقي الرياح القذى عنه وأفرطه

ينهل من صبب والمزن رحيل

ومازجته سحابات قد انهملت

من صوب سارية بيض يعاليل

أكرم بها خلة لو أنها صدقت

عهدي وما كثرت منه الأقاويل

أواه لو أحسنت وصلاً وما نبذت

موعودها أو لو ان النصح مقبول

لكنها خلة قد سيط من دمها

هجر لعاشقها نبذ وتنكيل

ولم أنل من هواها غير أربعة

فجع وولع وإخلاف وتبديل

فلا تدوم على حال تكون به

تروغ في قولها والوعد ممطول

بثت بخلف وأحوال ملونة

كما تلون في أثوابه الغول

ولا تمسك بالعهد الذي زعمت

وطبعها من طريق الدخل مخبول

فما لأقوالها شبه ولا مثل

إلا كما تمسك الماء الغرابيل

فلا يغرنك ما منت وما وعدت

أثقال أقوالها زور وتخييل

لا تغترر في أمانيها وموعدها

إن الأماني والأحلام تضليل

كانت مواعيد عرقوب لها مثلا

ولن يصدق منها القال والقيل

كربطة نقضت مغزولها عبثاً

وما مواعيدها إلا الأباطيل

أرجو وآمل أن تدنو مودتها

لكنني رمت شيئاً فيه تخليل

قالت تروم وصالاً قلت ذا خطل

وما إخال لدينا منك تنويل

أمست سعاد بأرض لا يبلغها

إلا أقب رباع فيه تسهيل

وليس يدرك ركباً فيه قد ظعنت

إلا العتاق النجيبات المراسيل

ولا يبلغها إلا عذافرة

سريعة الجري في البيداء شمليل

عوج الرقاب كريمات مؤصلة

فيها على الأين إرقال وتبغيل

من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت

تميل عجباً ولا عي وتنكيل

كأنما سيرها كالريح إذ عرضت

عرفتها طامس الأعلام مجهول

ترمي الغيوب بعيني مفرد لهق

قد حل سحيل واستقفاه شرحيل

لا تختشي تعباً أيضاً ولا سغباً

إذا توقدت الحزَّان والميل

ضخم مقلدها عبل مقيدها

لا يشتكى قصر منها ولا طول

همرجل مشيها والله صورها

في خلقها عن بنات الفحل تفضيل

غلباء وجناء علكوم مذكرة

عرمومة القد لا عتم وتعييل

مدموجة متنها ملآء من سمن

من دفعها سعة قدامها ميل

أجل إني أخاف عليه سعير قلبه ووجده، فهل استطاع الموت أن يخمد نار قلبه وحبه وهو العاشق الصوفي؟!

وإن تشطيره فائية ابن الفارض الشهيرة (قلبي يحدثني بأنك متلفي) شاهدة على أن نار حبه من أقباس الخلود متأججة لا تنطفئ، ولما كانت القصيدة طويلة اكتفيت بهذا القدر منها:

قلبي يحدثني بأنك متلفي

والجسم يخبرني بأنك مضعفي

إن كان لا يرضيك غير منيتي

روحي فداك عرفت أم لم تعرف

لم أقض حق هواك إن كنت الذي

جعل اللحاظ لموطئ المتصرف

فجميع ما جرت علي من الأسى

لم أقض فيه أسى ومثلي من يفي

ما لي سوى روحي وباذل نفسه

في عشقه ما إن يعد بمتحف

وعلى الحقيقة من يضيع روحه

في حب من يهواه ليس بمسرف

فلئن رضيت بها فقد أسعفتني

وبذاك أرقى للمقام الأشرف

فاعطف وساعدني وكن لي مسعفا

يا خيبة المسعى إذا لم تسعف

يا مانعي طيب المنام ومانحي

هجراً أحد من الحسام المرهف

يا بغية الآمال قد ألبستني

ثوب السقام به ووجدي المتلف

عطفاً على رمقي وما أبقيت لي

رمقاً فكن يا ذا الملاحة منصفي

فارحم بقية ما تبقى منيتي

من جسمي المضنى وقلبي المدنف

فالوجد باق والوصال مماطلي

والهجر نام والمعذب لا يفي

والجسم بال والدموع ذوارف

والصبر فان واللقاء مسوفي

لم أخل من حسد عليك فلا تضع

شغفي وفرط توجعي وتلهفي

وارحم أنيني في هواك ولا تطل

سهري بتشييع الخيال المرجف

واسأل نجوم الليل هل زار الكرى

عيناً توقد نارها لم تنطف

واسأل من الواشين هل زار الكرى

جفني وكيف يزور من لم يعرف

لا غرو أن شحت بغمض جفونها

عين تعودت الجفا من أهيف

جادت بلؤلؤها الرطيب لبعده

عني وسحت بالدموع الذرف

وبما جرى في موقف التوديع من

شغل الهوادج كاد جسمي يختفي

ومن الفراق تفتت كبدي ومن

ألم النوى شاهدت هول الموقف

إن لم يكن وصل لديك فعد به

فلعل روحي بالتواعد تكتفي

فالوعد منك أعده كالوصل يا

أملي وماطل إن وعدت ولا تفي

فالمطل منك لدي إن عز الوفا

يبدي التسلي للفؤاد المتلف

أجد التماطل منك إن عز اللقا

يحلو كوصل من حبيب مسعف

أهفو لأنفاس النسيم فعله

من كثر أشواقي وفرط تكلفي

لكنه تعليل قلب مدنف

ولوجه من نقلت شذاه تشوفي

فلعل نار جوانحي بهبوبها

نوعاً تخف بوقدها المتشطف

ولعل ناراً أضرمت بشراسة

أن تنطفي وأود أن لا تنطفي

يا أهل ودي أنتم أهلي ومن

ناجاكم في ضنك عيش عاد في

حاشا يضام دخيلكم إذ كل من

ناداكم يا أهل ودي قد كفي

عودوا لما كنتم عليه من الوفا

لفتى بحفظ الود غير مزخرف

وعليَّ جودوا يا آل ودي باللقا

كرماً لأني ذلك الخل الوفي

وحياتكم وحياتكم قسماً وفي

غير اليمين بكم حقيقاً لم أف

ويسركم أني يميناً في مدى

عمري بغير حياتكم لم أحلف

لو أن روحي في يدي ووهبتها


من غير ما منٍّ وغير تأسف

أو أنني أعطيت ما ملكت يدي

لمبشري بقدومكم لم أنصف

لا تحسبوني في الهوى متصنعاً

أو أن حبي فيكم بتخفف

لكن حفظي للعهود جبلة

كلفي بكم خلق بغير تكلف

أخفيت حبكم فأخفاني أسى

جعل الدموع بعارض مستوكف

وأضرني كتمان ما أخفيته

حتى لعمري كدت عني أختفي

وكتمته عني فلو أبديته

لخفى فلم يبصر ولم يتكلف

وصحبته حقًّا فلو أظهرته


لوجدته  أخفى من اللطف الخفي

ولقد أقول لمن تحرش بالهوى

قد جزت في بحر خطير مرجف

خل الهوى لأهيله واقصر فقد

عرضت نفسك للبلا فاستهدف

أنت القتيل بأي من أحببته

إن كان ينصف أو يكن لم ينصف

حب مسوف ثم حب قاتل

فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي

قل للعذول أطلت لومي طامعاً

أن أنثني عن ذي البنان المطرف

اكفف ملامك مدنفاً هجر الكرى


ليس الملام عن الهوى مستوقفي

دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى

إن لم تكن تصغي لقول الألف

من قبل عشقك لا تلم أهل الهوى

فإذا عشقت فبعد ذلك عنف

برح([3]) الخفاء بحب من لو في الدجى

أبدى ابتساماً زال لون المشرف

بدر تكامل حسنه فلو انه

سفر اللثام لقلت يا بدر اختفي

وإن اكتفى غيري بطيف خياله

أو قد رضي بتماطل وتسوف

أو إن تسلى في مرور نسيمه

فأنا الذي بوصاله لا أكتفي

وهواه وهو أليتي وكفى به

حلفاً ولست أخيَّ فيه بمخلف

وبسر صرفي مهجتي بوداده

قسماً أكاد أجله كالمصحف

فنه: كان الفقيد من أعلام الفن، وقد سما بشعره الغنائي إلى قمة المجد، فموشحاته التي نظمها ولحنها ستبقى خالدة في سحر معانيها وقوتها ما دامت الأرواح تنبض في قلوب البشر.

لقد كانت ساعة الفجر ـ وهي ساعة الفناء في الله تعالى ـ قرة عين ذلك الشهيد الصالح، وكانت قريحته تجود بنظم خرائده، وهي كالدر المنثور، يستوحي الإلهام من قدرة الخالق، فكم من عبرة أسالها بشعره وفنه وروحه وعاطفته، ومن نظمه وتلحينه موشح من نغمة الكردان المشهور، ووزنه (زرفكند):

عيد المواسم كأس وشرب

مع كل باسم إليه تصبو

فاشرب ونادم مع من تحب

إن كنت حازم فالعيش نهب

وقد أبدل المرحوم الفنان القباني لحنه من نغمة الكردان إلى النهاوند، لكنه اندرس بموته وتغلبت روعة الأصل فحفظه الكثيرون، وقد سجلته دار الإذاعة السورية في وصلة الكردان للأستاذ السيد سعيد فرحات.

وموشح حجاز غريب، ووزونه صوفيان:

لو رأى العاذل حالي ما ملك

أبإنسان غرامي أم ملك

أنا مملوك وخلي مالكي

ليس لي حكم على ما قد ملك

زارني طيف خيال في الكرى

قلت يا طيف الكرى من أرسلك

قال أرسلني الذي تعرفه

والذي بعض هواه أشغلك

وموشح عجم سماعي دارج:

شادن صاد قلوب الأمم

بجمال وشرد

ومنه قوله:

تفنن الناس بورد في الخدود

والعذار السندس

وعزار في محياك الشهود

يا مليك الأنفس

وعلى صدرك رمان النهود

بان تحت الأطلس

فيه مكتوب بخط القلم

قل هو الله أحد

يا رشا الخيف وبان العلم

مدد الله مدد

رحم الله هذا الشهيد الخالد الذي اشتهر بين أهل الفضل بأنه آية الإعجاز، فقد حاكى بشعره البليغ من سبقه من فحول الشعراء، ولو فسح الله في أجله المحتوم لجادت قريحته بعجائب النظم والفن.

الحاكم عثمان الجندي: وفي سنة 1785م تولى ابن الفقيد المرحوم عثمان الجندي الحاكمية، فسار فيها بكل نزاهة واستقامة، إلا أن حمص ما كانت لتخلو من بعض المشاغبين وذوي الأغراض شأن ذلك في كل زمن، فثار الأهلون على الحكومة وذلك سنة 1798م، فقمع الفتنة وفر المسببون، وقد أشار المرحوم الشيخ أمين الجندي بقصيدته التي مدح بها ابن عمه عثمان فقال:

الليث يعرف بأسه وثباته

إن أبطأت أو أسرعت وثباته

إلى أن قال:

فسل الكتيب بحي حمص إذ غدت

ترثي لأحياء به أمواته

وعلى يديه من الإله لقد جرى

فتح مبين أرخت خيراته

ويعتبر الحاكم عثمان الجندي أبرز من أنجبته الأسرة الجندية من حكامها الأبطال، وقد توفي سنة 1801م.

*  *  *

 



([1] (أ) (1/ 22 ـ 26).

([2] محنية: مفرد المحاني: معاطف الأودية، بكسر النون وتخفيف الياء.

([3] برح: وضح الأمر، من باب علم، وأما برح من باب نصر فمعناها فارق.

الأعلام