جاري التحميل

عبد الرزاق الدندشي

الأعلام

عبد الرزاق الدندشي([1])

الأديب والخطيب النابغة المرحوم الدكتور عبد الرزاق الدندشي

أصله ونشأته: ولد المرحوم عبد الرزاق بن خالد بن رستم الدندشي في قرية مشتى حسن سنة 1902م وعني المرحوم والده بتثقيفه، فأوفده مع والدته إلى حمص وتلقى دراسته في الكلية الوطنية الأهلية حتى تخرج منها، وكان المؤلف رفيق الفقيد في منصة الدراسة، وهو أكثر الناس معرفة بأطواره وأحواله.

كان رحمه الله في بدء حياته الدراسية كسولاً في دروسه، ولما وعى تغيرت أطواره ولمعت مخايل النبوغ في مراحل صباه، فتطاول في ذكائه النادر على أقرانه ورفاقه، وكان يميل إلى الأدب ويطالع كتب التاريخ ويحفظ أشعار العرب.

وكان المرحوم الشيخ عبد الرحمن سلام البيروتي المشهور أستاذ اللغة العربية في الكلية يشجع الطلاب على إلقاء الخطب ونظم القريض الارتجالي ولو كان مختلًّا لتمكين سليقتهم، وكان لتوجيههه هذا أبلغ الأثر في حياة المترجم.

تحصيله العالي: ولما أكمل دراسته العالية سافر إلى سويسرا فنال الدكتوراه في الحقوق وعاد إلى دمشق فتعاطى المحاماة، فكان من أبرز المحامين الناجحين.

عقيدته الوطنية: كان رحمه الله ذا عقيدة وطنية ملتهبة، وهو من مؤسسي عصبة العمل القومي وأمين سرها، وكان يضم خيرة الشباب الوطني، ومن أشد المناوئين للفكرة الصهيونية، وسدًّا منيعاً للحيلولة دون تسرب أراضي الحولة وغيرها إلى الصهيونيين الذين كانوا يشترون أراضي العرب بأغلى الأثمان، وقد ألقى محاضرات قوية بهذا الصدد.

الخطيب المصقع: لقد أكد الذين سمعوا خطبه الارتجالية أنه أمير الميدان في ذرى المنابر، تكاد تهتز أركانها بسحر بيانه وفصاحته وبلاغته، سريع البديهة في التنقل من موضوع إلى آخر دون أن يتأثر أو يرتج عليه الموقف، فقد صدف أن كان يخطب في القدس في حفلة أقيمت من أجل الدعاية لمنع بيع أراضي بحيرة الحولة إلى اليهود، وتطرق بحديثه إلى السياسة التي تتمشى عليها الحكومة الإنكليزية في فلسطين، فتقدم رئيس اللجنة منه وهمس في أذنه بأن لا يتعرض لهذا البحث، فتابع خطابه وانتقل إلى موضوع آخر دون توقف أو حيرة أو بلبلة.

شعره: لو تفرغ هذا النابغة إلى نظم القريض لدانت لقوة شاعريته وعميق إحساسه وخصيب خياله القوافي، ولكن مهامه السياسية وكثرة أعماله الخاصة ـ وهو المسؤول عن العصبة وتنظيم شؤونها ـ طغت على جميع أوقاته وحالت دون أمنيته.

ولما كنا نتلقى الدروس الإعدادية في حمص، طلب منه بعض رفاقه أن ينظم شعراً في الغزل، فوصف فتى أرمنيًّا اسمه (آرام) ـ وكان بديع الشكل والصوت ـ فقال ـ وهذا أول عهده بنظم الشعر ـ :

أمن سمهري القد بت تضام

أم قد فتنك حبيب القلب (آرام)

بكسر جفن وألحاظ تنبئ عن

رمي السهام فيا أهل الهوى حاموا

هذا الغزال يصيد الأسد قاطبة

بغمز عين بها العذال قد هاموا

ذو معطف لدن والخد فيه جرى

كأس السلافة منه الرشف قد راموا

فليهن فيه محب ضمه سحراً

وأعين الرقبا عن ذاك قد ناموا

وقبل الخد ثم الجيد في دعة

وشم عرفاً وما في ذاك آثام

هوايته الفن: كان رحمه الله يهوى الفن الموسيقي، ذا صوت شجي رائق، ينشد العتابا والمواويل التي تنشد في الأرياف التي نشأ فيها، وله موشحات عارض فيها النغمات التركية.

مصرعه: لقد كان مصرعه مؤثراً يفتت الأكباد حزناً وأسى، فبينما كان واقفاً في الحافلة الكهربائية بطريقه إلى مكتبه الكائن في المرجة أطل برأسه ليرمي السيكارة من فمه، فاصطدم بعمود كهربائي بالقرب من نادي الضباط بدمشق، فغاب عن رشده ونقل فوراً إلى المستشفى الوطني، ولما استفاق من غيبوبته كان لا ينطق ولا يعي، وتبين بعد الكشف بأن النخاع الشوكي قد اختلط بنزيف دموي داخلي، فقضى نحبه مأسوفاً على شبابه الغض، وذلك في يوم الأربعاء الأول من شهر آب 1935م، وهكذا خسر الوطن عنصراً نبيلاً وخطيباً فريداً في رجولته ومبادئه القويمة وهو في أشد الحاجة إلى وطنيته وقيادته.

وقد نقل جثمانه إلى حمص باحتفال مهيب ودفن في مقبرة الصحابي الجليل خالد بن الوليد، وتبارى الشعراء والخطباء في رثائه وذكر مناقبه الفاضلة، رحمه الله.

*  *  *

 



([1] (أ) (1/ 348 ـ 349).

الأعلام