جاري التحميل

عبد السلام بن رغبان

الأعلام

عبد السلام بن رغبان (ديك الجن)([1])

الشاعر ديك الجن الحمصي

أصله ونشأته: هو عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب بن عبد الله ابن رغبان بن زيد بن تميم، ولد سنة إحدى وستين ومئة، ولم يذكر التاريخ محل ولادته، ويقال: إن أصله من سلمية ومولده في مدينة حمص، ولقب بديك الجن لأطواره الغريبة.

كان من شعراء الدولة العباسية وكان يسكن حمص في دار واقعة في حي باب الدريب (بدخلة حارة الشرفا) بالساحة المعروفة (بصليبة العصياني) ما زالتمعروفة بدار ديك الجن حتى الآن، ولم يبرح نواحي الشام ولا وفد إلى العراق ولا إلى غيرها من البلاد العربية منتجعاً بشعره ومتصدياً لأحد. وقد أكد التاريخ زيارة أبي نواس الشاعر المشهور لصنوه الشاعر ديك الجن في حمص لما مر بها بطريقه إلى مصر لزيارة الأمير الخطيب ومدحه، فلما سمع ديك الجن بوصوله جلس في بيته ولم يظهر خشية التفوق عليه في قوافي الشعر فقصده أبو نواس إلى داره وهو متخف بها، فلما طرق الباب واستأذن بالدخول استقبلته جاريته وقالت ليس هو ههنا، غير أن أبا نواس الذكي عرف قصده فقال للجارية: قولي له: اخرج فأنت أشعر الإنس والجن، وفاتن أهل العراق بقولك:

موردة من كف ظبي كأنَّما

تناولها من خده فأدارها

فلما سمع ديك الجن مدح صنوه الشاعر خرج إليه وتناجيا في الشعر، وكانا من مذهب واحد في الندامة والمرح والمجون والهيام بالجمال.

بكر بن رستم: وتعرف ديك الجن على غلام اسمه بكر بن رستم من حمص وافتتن به، وكان لا يفارقه، وجلسا ذات ليلة يتسامران إلى أن غاب القمر، فأنشد ديك الجن فيه:

دع البدر فليغرب فأنت لنا بدر

إذا ما تجلى من محاسنك الفجر

إذا ما انقضى سحر الذين ببابل

فطرفك لي سحر وريقك لي خمر

ولو قيل لي قم فادع أحسن من ترى

لصحت بأعلى الصوت يا بكر يا بكر

الحب الأول: كان ديك الجن شاعراً مجيداً سار على نسق أبي تمام والشعراء الشاميين في شعره، يحب آل البيت، متشيعاً لهم بجهر ووفاء، وله مراث كثيرة في الحسين بن علي رضي الله عنهما.

وفد إلى حمص فطابت له الإقامة فيها، وشاءت الأقدار أن يكون في طريق حياته فتاة نصرانية حمصية تعرف عليها، وكان اسمها وردة بنت الناعمة، فامتلك جمالها الذي تغنى به ووصفه في شعره قلبه الكليم، وتمادى به الحب وطغى على شعوره، (وما القلب إلا للحبيب الأول)، فلما اشتهر أمرهما دعاها إلى الإسلام ليتزوج بها، فآثرته وأجابت رغائبه، فأسلمت وتزوجها، وفاض قلبه الزاخر بالحب، فقال يصف جمالها:

انظر إلى شمس القصور وبدرها

وإلى خزاماها وبهجة زهرها

لم تبك عينك أبيضاً في أسود

جمع الجمال كوجهها في شعرها

وردية الوجنات يختبر اسمها

من ريقها من لا يحيط بخبرها

وتمايلت فضحكت من أردافها

عجباً ولكني بكيت لخصرها

تسقيك كأس مدامة من كفها

وردية ومدامة في ثغرها

ارتباك الحياة: بسم له الدهر في نوال من يحب، ثم عبس بوجهه فقضى شطراً من حياته في ضنك وعسر، ورأى في أحمد بن علي الهاشمي أمير سلمية ضالته المنشودة، فقصده وأقام عنده مدة طويلة، ولم يحدد التاريخ في سيرة هذا الشاعر مدة إقامته في حمص أو سلمية أو دمشق عندما فر إليها بعدما قتل زوجته وردة، ولابد من تعليل استطرادي لجلاء بعض الغوامض بالأدلة العقلية المقبولة.

لقد قضى ديك الجن عهداً طويلاً في حمص قبل حبه، وخلال فترة التعارف والحب، وبعد الزواج ممن أحب، وهذه الفترة لا تقل عن بضع سنين، وليست فترة استطراق كما يظن البعض أن المزار قريب بين سلمية وحمص، وليس من المعقول أن ينقطع هذا الشاعر العاشق الولهان عن محبوبته فتمتد إقامته في سلمية مدة سنين دون أن يتردد على حمص بين فترة وأخرى لزيارة زوجته ولا معيل لها سواه، ولا يأتمن بأحد، وله في الحياة نظرة خاصة.

الدس والتآمر: وبينما كان هذا الشاعر المحب يقيم في سلمية وهو على جمر الغضا، وقد ترك فؤاده لدى من أشغله في حمص، إذ بلغ مسامعه ما يشين شرفه، فصعق للخبر واستأذن أحمد بن علي بالرجوع إلى حمص فأذن له، فقد أرجف ابن عمه أبو الطيب لأسباب لا تخرج عن نطاق الكيد والدس المفروض وقوعه في الجو العائلي لزواجه من امرأة لم يرض عنها ابن عمه، وأذاع هذا المرجف على وردة أنها تهوى غلامه بكر بن رستم، وأشاع ذلك بين أهل بيته وجيرانه وإخوانه، وانتظر ابن عمه وقت قدوم ديك الجن، فأرصد له في الطريق من يعلمه بموافاته باب حمص، فلما وصل ديك الجن بابها خرج إليه مستقبلاً له ومعنفاً إياه على تمسكه بامرأته بعد ما شاع ذكرها بين النساء، وأشار عليه بطلاقها، وأعلمه أنها قد أحدثت في مغيبه حادثة لا يجمل به المقام عليها، ودس الرجل الذي رماها به وقال له: إذا قدم ديك الجن ودخل منزله فقف على بابه كأنك لم تعلم بقدومه فناد باسم وردة، فإذا قال: من أنت؟ فقل: أنا فلان، وكانت المؤامرة محكمة الإتقان، فلما نزل الشاعر منزله وخلع ثيابه سألها عن ما شاععنها وأغلظ عليها، فأجابته جواب من لم يعرف من القصة شيئاً، فبينما هو في ذلك إذ قرع الرجل المدسوس لتمثيل هذا الدور باب داره، فقالت وردة: من هذا؟ فقال الطارق: أنا فلان، فقال لها زوجها: زعمت أنك لم تعرفي من الأمر شيئاً، ثم تسرع فاخترط سيفه فضربها حتى قتلها، وروي أن صديقه بكراً كان في البيت فقتله معها، وفي ذلك يقول:

ليتني لم أكن لعطفك نلت

وإلى ذلك الوصال وصلت

فالذي مني اشتملت عليه

يا لعار ما قد عليه اشتملت

قال ذو الجهل قد حلمت ولا أعـ

ـلم أني حلمت حتى جهلت

لم ينم لي بجهله ولماذا

أنا وحدي أحببت ثم قتلت

سوف آسى طول الحياة وأبكيـ

ـك على ما فعلت لا ما فعلت

وقال أيضاً:

قل لمن كان وجهه كضياء الشْـ

ـشَمس في حسنه وبدر منير

كنت زين الأحياء إذ كنت فيهم

ولقد صرت زين أهل القبور

بأبي أنت في الحياة وفي المو

ت وتحت الثرى ويوم النشور

خنتني في المغيب والخون نكر

وذميم في سالفات الدهور

فشفاني سيفي وأسرع في حزْ

زِ التراقي قطعاً وحز النحور

نزوحه إلى دمشق: ولما شاع خبر هذه الجناية بين أولي الأمر هاله الموقف وندم على تسرعه بعد أن تجلت براءة امرأته وطهارة شرفه، ونزح إلى دمشق فأقام فيها، وكتب صديقه أحمد بن علي أمير سلمية إلى أمير دمشق أن يؤمنه، وقد تجمل به إخوانه فاستوهبوا جنايته، فعاد إلى حمص ووقف على تفاصيل المؤامرة المحكمة التي مثل أدوارها ابن عمه المرجف، واعترف بتفاصيل المؤامرة التي نسج خيوطها، فأضناه الندم ومكث شهراً لا يستفيق من بكائه ونحيبه، ولا يأكل من الطعام إلا ما يقيم رمقه، وقال في ندمه على قتلها:

يا طلعة طلع الحمام عليها

وجنى لها ثمر الردى بيديها

رويت من دمها الثرى ولطالما

روى الهوى شفتي من شفتيها

قد بات سيفي في مجال وشاحها

ومدامعي تجري على خديها

فوحق نعليها وما وطئ الحصى

شيء أعز علي من نعليها

ما كان قتلها لأني لم أكن

أبكي إذا سقط الذباب عليها

لكن ضننت على العيون بحسنها

وأنفت من نظر الحسود عليها

ومكث في بيته منقطعاً عن الناس يستعيد ذكريات من أحبها وهي لا تبرح من مخيلة أفكارة في اليقظة والمنام، وقال فيها:

قمر أنا استخرجته من دجنه

لبليتي وجلوته من خدره

فقتلته وبه علي كرامة

ملء الحشا وله الفؤاد بأسره

عهدي به ميتاً كأحسن نائم

والحزن يسفح عبرتي في نحره

لو كان يدري الميت ماذا بعده

بالحي حلَّ بكى له في قبره

غصص تكاد تفيض منها نفسه

وتكاد تخرج قلبه من صدره

واشتد به الأسى والألم، ولم ير من كان حوله سبيلاً إلى سلوانه، فإذا أنشد يرثيها بكى الناس، ومن قوله فيها:

أساكن حفرة وقرار لحد

مفارق خله من بعد عهد

أجبني إن قدرت على جوابي

بحق الود كيف ظللت بعدي

وأين حللت بعد حلول قلبي

وأحشائي وأضلاعي وكبدي

أما والله لو عاينت وجدي

إذا استعبرت في الظلماء وحدي

وجدَّ تنفسي وعلا زفيري

وفاضت عبرتي في صحن خدي

إذاً لعلمت أني عن قريب

ستحفر حفرتي ويشقُّ لحدي

ويعذلني السفيه على بكائي

كأني مبتلى بالحزن وحدي

يقول قتلتها سفهاً وجهلا

وتبكيها بكاء ليس يجدي

كصياد الطيور له انتحاب

عليها وهو يذبحها بجد

وفاته: لقد عاش ديك الجن بضعاً وسبعين سنة، وتوفي في أيام المتوكل سنة خمس أو ست وثلاثين ومئتين هجرية، ودفن في حمص، رحمه الله وعفا عنه.

*  *  *

 



([1] (أ) (1/ 19 ـ 21).

الأعلام