جاري التحميل

عبد الغفار الأخرس

الأعلام

عبد الغفار الأخرس([1])

(1805 ـ 1873م)

أصله ونشأته: هو عبد الغفار بن عبد الواحد بن وهب، ولد في مدينة الموصل سنة 1220ﻫ ـ 1805م، وتلقى على أعلام عصره شتى العلوم، ثم رحل ونشأ في بغداد، فبرز ونبغ وطارت شهرته في الآفاق، وكان علوي المذهب، يسكن بجانب الكرخ من بغداد، وبيته ما زال معروفاً باسمه حتى الآن رغم تقلب الأيام.

خرسه: وشاء القدر أن يعتريه مرض أخرس لسانه وهو في العشرين من عمره، ولولا خرسه لما ظهرت عبقريته، لقد كان الألم والحرمان من أكبر عوامل نبوغه، واشتهر أمره في العراق وبلغ ذلك مسامع الوزير داود باشا والي بغداد فقربه وأدناه، ثم أرسله إلى الهند لعرضه على الأطباء ومعالجته عسى أن يفك عقال لسانه، وبعد معاينته قال له الطبيب: (أنا أعالج لسانك بدواء، فإما أن ينطلق أو تموت)، فكتب الجواب للطبيب: (أنا لا أبيع كلي ببعضي)، وعاد إلى بغداد.

حياته: لقد كانت حياة هذا الشاعر الأخرس عبرة وذكرى للناس، تعرض للثراء والفقر في مراحل حياته لإفراطه في سجية الكرم.

في السجن: كان الوزير داود باشا والياً على بغداد، ذا هيبة ووقار، ندر من تجرأ للدنو منه، وقد كان الشاعر الأخرس مقرباً لديه، وبالرغم من علة الخرس فإنه كان محسوداً، لتقربه من العظماء، فوشى بعضهم عليه بأنه يدين بالولاء إلى خصمه عبد الرحمن باشا والي الموصل، فحبسه، فكتب يقول في ذلك:

أقول للشامت لما بدا

يكثر بالتعنيف والشين

أليس يكفيني فخاراً وقد

أصبحت في قيد وزيرين

شعره: له ديوان شعر مطبوع اسمه (الطراز الأنفس في شعر الأخرس) جمعه الشاعر العراقي أحمد عزت باشا الفاروقي، وفيه الكثير من المدح والرثاء والغزل والشكوى والأنين لحالته ومرضه، لقد كان يكره الهجاء إلا إذا أحوج إليه، وله مداعبات هجائية مع صديقه علي الكيلاني نقيب أشراف بغداد، فقد كان هذا كريم العين وتزوج بفتاة كريمة العين، ولما بلغ الأخرس هذا العقد أرخه مرتجلاً بقوله: (واقع الأعور بنت الأعور)، وتحدث الناس بأحد القضاة، فهجاه ببيتين من الشعر، فطار صوابه وارتحل عنهم.

ثراؤه وفقره: كان يجول في العراق، فتارة في البصرة وتارة في بغداد، يتنكب الأغوار منها والأنجاد، يمدح العظماء فتصل ليده ألوف الدنانير، وقد كان غريب الأطوار في كرمه، فهو طوراً مثري وطوراً مقل، يوزع كل ما لديه على الفقراء، وكان بعض الأيام لا يملك قوت يومه، فتمنعه عزة نفسه عن الطلب، وهذا ما أفاض بلسان حاله من الهم والكرب بقصيدة مدح بها صديقه عبد الغني جميل، منها قوله:

ودهر أعاني كل يوم خطوبه

وذلك دأبي يا أميم ودأبه

وأعظم بها دهياء وهي عظيمة

إذا اكتشف الضرغام بالذل غابه

إلى أن قال: 

وأبعد ما حاولت حرًّا دنوه

دنوك مما يرتضي واقترابه

كأني أرى (عبد الغني) بأهله

غريباً من الأشراف طال اغترابه

يميزه عنهم سجايا منوطة

بأروع من زهر النجوم سحابه

كان الأخرس عجيباً في تشاؤمه، وفيًّا لأصدقائه، يحزن ويفجع لمصيبة الموت، يهيم حبًّا وإعجاباً بشاعر العراق الأكبر عبد الباقي الفاروقي، فأرخ عام وفاته بقصيدة مؤثرة مطلعها:

ما لي أودع كل يوم صاحبا

إذ لا تلاقي بعد طول فراق

ومنها:

فارقت أذكى العالمين قريحة

وأجلها فضلاً على الإطلاق

وفقدت مستند الرجال إذا روت

عنه الثقاة مكارم الأخلاق

وأرخ وفاته بقوله:

رزء أصيب به العراق فأرخوا

رزئ العراق بموت عبد الباقي

1287ﻫ

غزله: كان يهوى الجمال ويتغزل به، وله في ميادينه جولات بارعة، لا يأبه بالحاسد والعذول، ومن قوله:

ومليحة أخذت فؤادي كله

وجرت بحكم غرامها الأقدار

فتانة باللحظ ساحرة به

ومن اللواحظ فاتن سحار

ودعتها يوم الرحيل وفي الحشا

نار وفي وجناتها أنوار

بمدامع باحت بأسرار الهوى

للعاذلين وللهوى أسرار

لا ينكرن المستهام دموعه

مما يجن فإنها إقرار

وفاته: وفي سنة 1290ﻫ ـ 1873م عزم التوجه إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وكان آنئذ في البصرة، فمرض وكر راجعاً إلى بغدد يكابد آلام مرضه، ثم عاد في شهر رمضان من ذلك العام إلى البصرة وبه من المرض حسرة وأسى، فلم يزل يثقل به المرض حتى وافاه الأجل، فانقض بموته ذلك البيان، وانطفأ نور ذياك الجنان، فشيع أفاضل البصرة جنازته بعيون دامعة، ودفن بمقبرة الإمام الحسن البصري في ناحية الزبير.

*  *  *

 



([1] (أ) (2/ 179 ـ 180).

الأعلام