جاري التحميل

عبد الغني شعبان البيروتي

الأعلام

عبد الغني شعبان البيروتي([1])

الفنان الألمعي الموهوب الأستاذ عبد الغني شعبان البيروتي

لقد دلت الوقائع في مجرى حياة الفنانين أن الأقدار التي لا مرد لأمرها تتدخل في تكييف حياتهم ومن هؤلاء المترجم الفنان الذي لعبت الأقدار في مراحل حياته منذ أبصر النور في هذه الدنيا.

أصله ونشأته: هو عبد الغني بن مصباح شعبان، ولد في بيروت سنة 1925م وتكنت العائلة بهذا الاسم الموروث عن أحد الأجداد، أما الكنية الأصلية للعائلة فهي (التقي) وموطنها الأصلي دمشق الفيحاء، وتشاء الأقدار أن تجتاح مدينة بيروت موجة من حمى الجدري الفتاكة، فأصيب عبد الغني برشاشها وكاد رجال الإسعاف أن يعتدوا عليه فيحرقونه بالكلس كما كانوا يفعلون في مكافحة هذا المرض الساري في ذلك الحين لولا أن القدرة الإلهية تدخلت وأنقدت الطفل من المرض، وفي السادسة من عمره دخل المدرسة الأزهرية الإسلامية في بيروت فتلقى فيها علومه.

دراسته الفنية: وفي عام 1940م أصبح صاحب ورشة دهان سيارات بمحلة رأس النبع في بيروت، وتشاء الصدف أن يسمعه أحد الزبائن وهو يرتل إحدى أغنيات فيلم يوم سعيد فيعجب بصوته الجميل ونبراته القوية، وفي اليوم الثاني كان الفنان المترجم في طريقه إلى بيت الموسيقي الشاب الأستاذ عزيز غنام الحلبي الذي كان يعمل في محطة الشرق ببيروت، وتعرف بالوقت ذاته على الأستاذ غالب طيفور وكان يعمل في محطة راديو الشرق أيضاً، وارتسمت على شفاه هذين الفنانين ابتسامة لم يستطيعا إخفاء معانيها، وهي أن هذا العامل لابس الثوب الأزرق والألوان الملتصقة به تدخل بما لا طاقة له به، واعتذر الأستاذ عزيز غنام عن إعطائه الدروس، وتولى أمر تدريسه الأستاذ غالب طيفور وهو على مضض مدة ثلاثة أشهر، ولما تجلت مواهبه أعجب بذكائه وسرعة أخذه الدورس الصعبة، ثم درس قواعد العزف على آلة العود على الأستاذ التركي الكبير كارنيك قازنجيان، فكان يحفظ الدروس الرئيسية مع الإيقاع والنقرة التركية وأوضاع الأصابع الصحيحة (البوزيسيون)، وتابع دراسة الموسيقى الشرقية الصحيحة على يديه، ثم سعى له الأستاذ طيفور ليدرس قواعد الموسيقى الغربية والعزف على آلة البيانو في المعهد الموسيقي الوطني في بيروت.

وأوعز المرحوم الفنان وديع صبرا مدير الكونسترفتوار اللبناني إلى مدام لازاريف المدرسة الكبيرة في البيانو بإعطائه دروساً على آلة البيانو، ولمست منه هذا الاندفاع الكبير نحو العلم فاهتمت بأمر تعليمه، وفي هذه الفترة كان الأستاذ غالب طيفور يوجه المترجم توجيهاً قيماً، واشترى له كلارنيت ومندولين وعلمه عليهما بالإضافة إلى آلتي العود والبيانو وإتقانه النوطة إتقاناً عجيباً.

وكان الأستاذ صبرا يراقب نضوجه الفني ويرشده إلى الطرق الصحيحة ويشرح له أساليب اللحن على طريقة (الفوج)، واستحصل المترجم على كتب موسيقية نادرة من شرقية وغربية، وكان يعاونه في أول الأمر على الترجمة صديق له يدعى منذر الهنيدي، ثم لم يلبث الأستاذ عبد الغني شعبان أن شعر بحاجته الملحة إلى تعلم اللغة الفرنسية، فأكب على دراستها بمساعدة صديقه الأستاذ زكريا كعيكاتي، وهو أستاذ في ست لغات، وتمكن هذا الفنان الألمعي من دراسة اللغة الفرنسية بسرعة مدهشة تنم عن ذكائه الحاد، وترجم كتباً ضخمة ونادرة.

سفره إلى مصر: وفي عام 1946م تعرف على الأستاذ أحمد عبد المجيد قنصل المملكة المصرية العام في سوريا ولبنان، وهو أول من شجع محمد عبد الوهاب ونظم له القطعة المشهورة (مريت على بيت الحبايب) وغيرها كثير، وعندما استمع القنصل المذكور إلى ألحان المترجم أهداه بعض منظوماته منها قصيدة (ظنون)، وطلب منه إبدال كلمات قصيدة استوحاها من اللحن نفسه أسماها العيون السود،ومطلعها:

أيها اللائم دعني

ليس يرجى لي متاب

كلما أوصدت باباً

للهوى ينشق باب

وألح عليه بالذهاب إلى مصر وزوده بكتاب إلى الفنان المصري الأستاذ محمد عبد الوهاب، ولما اجتمع به واستمع إلى بعض ألحانه سأله عما إذا كان يعرف علم النوطة، فأجابه أنه درس الهارموني والكونتربوان، وهما عنصران في التأليف الموسيقي الكلاسيكي، فقال له عبد الوهاب: أنت موسيقي كويس، إنما إن كنت عايز تشتغل في مصر لازم تلحن ألحان شعبية زي عبد الغني الشيخ ومحمد سلمان؛ أعني الألحان الخفيفة، وأفهمه بأن الملحنين المصريين أمثال القصبجي والسنباطي وغيرهما ـ يقصد نفسه ـ هؤلاء لا تتركهم الشركات المصرية وتأخذ من ألحانك، وفهم المترجم بصراحة أن الأستاذ عبد الوهاب مطرب الجيل يحارب الفنانين الناشئين، وتعرف على الأستاذ محمد القصبجي وعرض عليه العمل معه في فرقته، وشعر المترجم بالفارق بين نفسية القصبجي كملحن ونفسية سواه ممن يخافون بروز المواهب الناشئة، ورفض دخول المعهد العالي للموسيقى في مصر لأمر يتعلق بشروط المعهد، إذ يتوجب على الموسيقي المنتسب أن يخدم المعهد بعد حصوله على الشهادة مدة خمس سنوات، وأخطأ عندما استقال من محطة الشرق الأدنى لأنه كان باستطاعته متابعة الدراسة على أيدي الفنانين الألمان، وهكذا عاد إلى بيروت آسفاً لأنه ذهب للدراسة والاستفادة فوجد نفسه أكثر علماً من خريجي المعاهد المصرية، ووجد معظم الموسيقيين المصريين يجهلون النوطة وتوابعها.

تدريسه في المعهد الموسيقي الشرقي بدمشق: وتلقى هذا الفنان من محطة دمشق الفنية رسالة تدعوه إلى العاصمة السورية، وعين مراقباً فنيًّا عامًّا ومعاوناً لرئيس القسم الموسيقي، ورئيساً للقسم الموسيقي الآلي، ثم انتدب لإدارة المعهد الموسيقي الشرقي، وقام بتدوين الموشحات الأندلسية عن الفنان المرحوم عمر البطش، ثم قدم استقالته من الإذاعة لأسباب خاصة وعاد إلى بيروت، وفوجئ الأستاذ بمرض والدته، فوافاها الأجل، وأصيب بصدمة نفسية، وتلقى من صديقه الأستاذ أحمد عبد المجيد المصري هذه التعزية.

الناس بين مودَّعٍ ومودِّع

فإذا مضوا للآخرين استقبلوا

والكل نحو نهاية محتومة

المسرعون الخطو والمتمهل

متابعة الدراسة والتأليف: وعكف الأستاذ على متابعة الدراسة الجدية والمطالعة والتأليف ووضع أساليب مستوحاة من الأساليب الغربية لترقية الأساليب الشرقية، ووضع تمارين خاصة بآلة العود، وجعل يعمل التجارب في تركيب الهارموني على الموسيقى الشرقية، ووجد أن بالإمكان استغلال قواعد الكنتربوان في الموسيقى الشرقية، ودرس المترجم علم الفلك دراسة وافية بغية وضع قطع موسيقية بعنوان(الكون العظيم)، وكان يذهب إلى السينما ويدون موسيقى الأفلام بسرعة نادرة وتشتري المجلات المصرية نوتات أغاني الأفلام لتنشرها على صفحاتها، واستحصل من باريس على مؤلفات ضخمة تختص بالتأليف الكلاسيكي العالي والقواعد العلمية القاسية، ويأمل أن يتمكن من وضعها باللغة العربية، وبذلك يخدم بلاده خدمة تشعره بالطمأنينة على مستقبل الموسيقى، وله هواية خاصة بالغناء الأوبريت، فهو يضع منها بالعربية بشكل لم يسبقه إليها أحد، منها (مغناة عشتروت) تأليف بيير روفائيل، وقد عجزت الفرقة الموسيقية في إحدى الإذاعات عن إخراجها، ثم مغناة (موت الإيمان).

إشاعة انتحاره: وفي عام 1950م قدم طلباً لوزارة المعارف اللبنانية لإعطائه منحة مالية للسفر إلى باريس والحصول على البروفسيرا من دار المعلمين الموسيقيين بباريس، فأهمل طلبه وأرسل غيره بطريق الزلفى والمحسوبية، فهاجم الأستاذ بيير روفائيل الحكومة اللبنانية، وأراد المداعبة فنشر بجريدته مقالاً عنوانه: (أمس صباحاً على الروشة انتحر عبد الغني شعبان)، وكان لهذا المقال دويٌّ هائلٌ في الأوساط الحكومية والشعبية، وتلقت جريدة بيروت المساء البرقيات من كل أقطار العالم، وشعر هذا الفنان بحب الجميع وعطفهم على قضيته وخاصة عندما كان في زيارته وفد صحفي يعوده معتقداً أن الحادث وقع فعلاً، فكانت دموعه تعبر عن مدى شعوره وألمه النفساني، وبعد ذلك قررت محطة الإذاعة اللبنانية تعيينه عازفاً على آلة البيانو والكونترباص على أن يعطي دروساً خاصة لموسيقيي الإذاعة، ولكن قبل أن يتبلغ القرار تلقى هذا الفنان المحبوب مخابرة هاتفية من المعهد الموسيقي الشرقي بدمشق، وعهد إليه بتدريس مادتي النظريات والهارموني.

المجتمع الفني السوري يرحب بعودته للتدريس بدمشق: واستقبل هذا الفنان بالإعجاب والترحاب وباشر العمل، وخصته محطة إذاعة دمشق ببرنامجين خاصين يقدمهما من محطتها، وهو اليوم يضع المناهج النظرية والهارمونية وجميع ما يتعلق بقواعد التأليف الموسيقي الكلاسيكي في المعهد الموسيقي الشرقي، ويدرس أيضاً أصول فن الموشحات، ويقوم بتدريس الموسيقى في معاهد دوحة الأدب للبنات، ويعد الطالبات للغناء الجماعي (بشكل كور أوبري)، ويأمل أن تصل الموسيقى في سوريا إلى الدرجة التي تتماشى مع نهضة سوريا الحديثة موطنه الأصلي.

أوصافه: ومن أبرز مواهبه الفنية أسلوبه الشيق في استلهام الألحان التصويرية في الأوبرات والقطع الكلاسكية عن تخيل القصة وهو مغمض العينين والإصغاء إلى اللحن كما توحيه الطبيعة وتدوينه بالنوطة، ثم يعود فيدرسه عن النوطة كأنه ليس هو الذي وضعه، والأمل الوحيد هو أن يمد الله في حياة هذا الفنان النابغة حتى ينهي الكتب العلمية التي تحتاجها المكتبة العربية، ثم إتمام العمل في المؤلفاتالتي هي من النوع السنفونيكي والتصويري والراديسودي إضافة إلى وضعه ألحان مضادة (كونتربوان) للموشحات الأندلسية لتنشد مع ثمانين منشد ومنشدة.

يتمتع المترجم بصفات مثالية نادرة، فهو يخدم الجميع ويقدم المساعدات الفنية لكل موهوب.

*  *  *

 



([1] (أ) (1/ 291 ـ 292).

الأعلام