عبد القادر رشيد الناصري
عبد القادر رشيد الناصري([1])
ما كنت أود أن أدنس حلقة العراق الأدبية بذكر اسم هذا المخلوق الشاذ، الذي تفنن بأساليب الاحتيال، ولم تكن غايتي بذلك التشهير به، ولا التجني عليه، وهو المتجني علي، بل نصيحة وتحذيراً لكي لا يقع غيري في شرك مثله.
لقد زرت أكثر آفاق الدنيا، وتعرفت على شخصيات كثيرة، فلم أر لهذا المخلوق مثيلاً بشذوذه بين البشر، فهو يتعرف على الناس عن طريق الأدب كشاعر مقتنص، ويراسلهم حتى إذا ما وثقوا به، تنكر لهم وعقهم وأنشب مخالبه فيهم فتكاً ونهشاً.
ويؤسفني أن أكون أحد ضحاياه، قد أشقاني الحظ فعرفني بنفسه بطريقة عجيبة، وهي أنه صدف أن استمع إلى إحدى محاضراتي في الإذاعة السورية، وكنت استشهدت بالأستاذ محمد حبيب العبيدي مفتي الموصل عن شأن له علاقة بمؤتمر الخلافة الإسلامية الذي كان عقد في مصر لتقرير مصيرها، وكان أحد الناس قال لي بأن مفتي الموصل قد وافاه الأجل، فذكرت اسمه في المحاضرة مقروناً بالرحمة عليه، وإذا بالناصري يكتب إلي دون سابق معرفة أن أصحح الرواية، لأن المفتي (العبيدي) حي يرزق، فكتبت إليه بالاعتذار والأسف والتصحيح، وقلت بأن هذا كان نقلاً عما سمعته بوفاته لا قصداً، وقد سبق أن اشتركت باستقبال (العبيدي) والتعرف عليه أثناء مروره من الموصل إلى دير الزور بطريقه إلى مؤتمر الخلافة في مصر، وانتهت القصة عند هذا الحد، ولكن الشاعر الأفاك استمر يراسلني ويزعجني بكثرة طلباته، ويدعوني لزيارة العراق ليقوم بواجب مؤازرته الأدبية لي، فقد طلب مني ديوان المرحوم الشيخ أمين الجندي لدراسته، وهو مفقود، ومع ذلك فقد تمكنت من الحصول على نسخة منه وأهديتها إليه، ولم يلبث أن طلب نسخة من ديوان المرحوم عبد الحميد الرافعي، وهو مفقود أيضاً، واستمر التكليف والإزعاج بالطلب، فتارة يبعث إلي بقصائده لنشرها في المجلات والصحف السورية، وأكثرها قد نشر مرات عدة، وليس أثقل على النفس من الحديث المعاد عند العارفين، ولكنه يبغي أمراً معلوماً، بل أحبولة يلقيها علها تصيب صيداً، وتارة يطلب إرسال بضعة نسخ مما نشر له في البريد الجوي المسجل ليحتفظ بها، كأنه لا يجوز الاحتفاظ بمثل هذه السفاسف إلا عن طريق البريد الجوي المسجل، ومع ذلك كنت أقوم بتلبيته وأتغرم تكاليف البريد الباهظة، وكثيراً ما كانت الصحف ترفض قصائده لطولها الممل وسخافة موضوعها، فكنت أتحمل هذه الأمور من رجل توهمت بأنه صادق وفي بما يدعيه من خدمة الأدب والتاريخ.
والأغرب من هذا أنه كان في رسائله إلي يدعي بأنه أمين سر العاصمة (بغداد)، فينتحل وظيفة كبيرة بالنسبة لمقامه السخيف إيهاماً وتغريراً، ولما زرت بغداد في شتاء سنة 1956م وجدته أحد الكتاب في ديوان يهيئ شهادات الفقراء والموتى للطالبين.
وتم التعارف آئنذ بيني وبينه، فإذا هو من أبشع خلق الله في شذوذه وأبرعهم في أساليب الصيد والخداع وإساءة سمعة عاصمة الرشيد بالمسالك التي يسلكها، ولامني الكثيرون من أدباء بغداد على صلتي به، فصرت أتهرب من فندق (ريجنت) الذي نزلت فيه تفادياً من الاجتماع به.
وعدت إلى دمشق بعد أن خدعني بإبقاء (18) نسخة من مؤلفي الجزء الأول من أعلام الأدب وثمنها (45) ديناراً ليقوم ببيعها مؤزارة لي وحرصاً منه كما يدعي لنشر الثقافة والتاريخ، وطال الانتظار، وكثر التأكيد عليه، ورغم الإلحاح بالرجاء وتحذيره بالعواقب فإنه لم يكترث ولم يرعو، فراجعت المفوضية العراقية بدمشق التي اتصلت بوزارة الخارجية العراقية، فكان جواب الناصري لمراجعة (أمانة العاصمة) بأنه وزع النسخ على الناس بناء على تفويض مني إليه باسم الدعاية لمؤلفي، وهو كاذب في زعمه واختلاقه، وكتبت إلى شخصيات بارزة كثيرة وعرضت عليها موقف الناصري من خيانته لزائر غريب، فأجابوا بضرورة ملاحقته قضائيًّا، لأنه سبق أن مثل فصولاً كثيرة مثل هذه، وأنه يحكم التمثيل والصيد بحيث تتعذر ملاحقته بأية طريقة كانت.
وبلغني من موظفي المفوضية العراقية بدمشق بأن المذكور كان قد أوفد في عهد وزارة معالي الأستاذ نجيب الراوي للدراسة في فرنسا، فألغي إيفاده بناء على سلوكه الشائن، وإني أوجه اللوم إلى حكومة العراق التي تستخدم أمثال هذه العناصر في دوائرها، فتترك لهم المجال لخداع الناس وغشهم باسم الوظائف الكبرى وصلة العلم والأدب، مع ما اشتهر عنهم وعرفوا به.
ولما كان الدين النصيحة، رأيت أن أنشر القصة الواقعة كما جرت، ليتفادى الناس من الوقوع في أحابيله، وكفى أن يعرف بهذا.
* * *