جاري التحميل

عبد الله يوركي الحلاق

الأعلام

عبد الله يوركي الحلاق([1])
الشاعر العبقري الفذ الأستاذ عبد الله يوركي الحلاق

هو شاعر غساني الأرومة والنجار، امتلك نواصي الإبداع في القريض والبيان، فكان السور الأدبي الذي لا يثلم، هو شاعر مشرق العقيدة في وطنيته الصادقة، وشاعر العاطفة والإلهام الذي تشدو عنادل الأدباء والشعراء والمتفننين بغناء شعره الروحي، فالشعر غناء الأرواح، والشعراء يتبعهم الغاوون، فمنهم شقي وسعيد، هذا العندليب الشاعر رحمة لمن شقي وفرقد منير لمن سعد، ذلك هو شاعر العروبة الفذ عبد الله يوركي الحلاق.

أصله ونشأته: هو ابن السيد يوركي، ومعناها جورج باليونانية، وجده المرحوم عبد الله المشهور بالحلاق، وأصل أسرته من حوران عرين الغسانيين، كما تثبت الحجة المحفوظة لدى الأسرة بانحدارها من عرب حوران الغساسنة، وقد نزحت من حوران واستوطنت حلب الشهباء منذ (650) سنة.

بزغ نجم هذا الشاعر الغساني بحلب في 13 حزيران 1911م، وكانت ولادته في الغرفة التي ولد فيها الموسيقار المتفنن الأستاذ سامي الشوا، وهي كائنة في دار لاتزال تعرف حتى اليوم بدار الشوا التي ولد فيها والده وأعمامه من قبله، وهي كائنة في حي الهزازة.

نشأ في بيئة مغمورة بالهدى والكمال، ولمعت مخايل النجابة والذكاء على محياه، فشب تحيطه العناية الإلهية في مسراه، تلقى مبادئ اللغتين العربية والفرنسية في المدرسة الكبرى للروم الكاثوليك بحلب، وتخرج من الصف الرابع الذي يعادل صف الكفاءة اليوم، فكان محط الأنظار بذكائه اللماح، وسخت عليه الطبيعة بثغر بسّام وسجايا فذة.

خدماته الاجتماعية: وفي سنة 1928م غادر المدرسة وتسلم عملاً كبيراً كان يديره أحد أعمامه، إلا أن مواهب هذا العبقري التي لا تقف عند حد قادته إلى ميدان الصحافة، فبرزت ألمعيته للعيان، ودان ليراعه الجبار المنظوم والمنثور، وهو مجاز من معهد الصحافة المصري في القاهرة، وفي سنة 1931م أصدر بالاشتراك مع الأستاذ يوسف شاحف مجلة الضاد الغراء، وفي عام 1934م انفرد بإصدارها بنفسه، ثم نقل امتيازها باسمه، وتعتبر في طليعة المجلات العربية انتشاراً وازدهاراً في الآفاق، وفي سنة 1931م التحق بمكتب المحامي الكبير معالي الأستاذ فتح الله الصقال، وما زال أميناً لسره ومحرراً لمجلة (الكلمة) وأميناً لصندوق مشاريع الكلمة الخيرية المشهورة.

رحلاتـه: قـام بعـدد مـن الرحـلات فـي سـبيل تعزيـز الأدب والاطلاع والاستقصاء، فقد زار القطر المصري في سنة 1337م، وزاره مرة ثانية سنة 1947م، فكان موضع حفاوة العظماء ومشاهير الشعراء والأدباء وإعجابهم بنوغه، ثم رحل مع جمعية العاديات في سنة 1953م إلى فلسطين وشرق الأردن، وقام برحلات أثرية إلى أنطاكية وإسكندرون واللاذقية وقلعة سمعان وغيرها، وقد كان لمشاهداته أبلع التأثير في إحساسه الشعري، فجادت قريحته الفياضة بأنصع الدرر والخرائد الخالدة والأبحاث العلمية مما يعجز القلم عن نعت روائعه،وقد اعتزت جميعة العاديات بحلب بعضويته واستفادت من آثاره ومآثره.

في ميدان التدريس: وناداه الواجب الإنساني فسعدت الثقافة بمواهبه الأدبية، فدرس اللغة العربية في الكلية الأمريكية بحلب، وفي المعهد الفرنسي العربي (اللاييك)، وله فضل ثقافي كبير على النشء الحديث في الشهباء.

مؤلفاته المطبوعة: لقد أنتجت قريحته المتقدة روايات، منها (الزفرات) وهي مجموعة سبع قصص وقد طبعت مرتين، و(في حمى الحرام) وهي قصة تظهر مروءة العرب وإباءهم وحميتهم، و(وضوح الإملاء) هو كتاب مدرسي لتعليم الإملاء بالطريقة الاستنباطية الحديثة، وقد طبع ثلاث مرات، وكان الإقبال على اقتنائه كبيراً، و(خيوط الغمام) وهو ديوان شعر، طبعه مرتين.

مؤلفاته المخطوطة: لقد أنتج هذا النابغة مؤلفات مخطوطة، يقوم بتهيئة إخراجها وطبعها على مراحل حسبما تتيح له الظروف، منها ديوان شعر جديد يضم ما نظمه من قصائد خلال سني 1942 ـ 1954م، و(حضارة العرب)، و(أقوال الغربيين في العرب ومدنيتهم)، و(الحلبيون في المهجر)، و(الكلمة وصاحبها) وهي تبحث عن تاريخ مشاريع الكلمة الخيرية وما قام في سبيلها من عقبات وعثرات ومحاربة الإكليروس لها، وما أبداه مؤسسها الأب بولس قوشاقجي المحترم في ميدان الخير والفضيلة، وكيف آل أمرها إلى الأستاذ فتح الله الصقال الذي رفع شأنها وعزّز مقامها، و(ميت يتكلم) وهي رواية تمثيلية مثلت في عام 1946م ولاقت نجاحاً عظيماً، ودرّت على جمعية الكلمة ـ وقد رصد ريع الحفلة لها ـ مبلغاً آخر، و(الجمال عند العرب)، و(نوادر الأدباء)، و(نوادر العظماء)، و(نوادر الكرماء والبخلاء)، و(نوادر المتفننين والزجالين والأطفال ومعلمي المدارس).

شعره: وفي عام 1942م أصدر ديوانه الشعري الرائق (خيوط الغمام)، وهو بعض الفيض من أفق خياله الغساني المرهف في شتى المواضيع.

لقد تسامى هذا النابغة الغساني في عظمة نبله، وتجلى حبه وتمجيده للرسول الأعظم ﷺ بقصيدته العزيزة على كل مسلم وعربي، وعنوانها (محمد)، فقال وقد أبدع وأجاد:

قبس من الصحراء شعشع نوره

فجلا ظلام الجهل عن دنيانا

ومشى وفي أردانه عبق الهدى


وأريج فضل عطر الأكوانا

بعث الشريعة من عميق ضريحها

فرعى الحقوق وفتح الأذهانا

مرحى لأمي يعلم سفره

نبغاء يعرب حكمة وبيانا

من ذا يجاذبه الفخار وقد حمى

أمّ اللغات وشرف العربانا

أمحمد والمجد لحمة ثوبة

مجّدت في تعليمك الأديانا

وسحقت رأس الشر حين وطئته

وزرعت في قلب الغني حنانا

ومنها لافض فوه بغير اللثم والقبل:

إني مسيحي أجلّ محمدا

وأراه في سفر العلى عنوانا

وأطاطئ الرأس الرفيع لذكر من

صاغ الحديث وعلّم القرآنا

إني أباهي بالرسول لأنه

صقل النفوس وهذّب الوجدانا

لقد بنى مجده الأدبي على صروح شامخة من وطنيته، فعبّر وجدانه عن إحساسه الروحي نحو قوميته وعبقريته، فقال في قصيدته بعنوان (حب الوطن): 

الخلد مكتوب لمن

سُفكت دماه فدى الوطن

فانهض إلى سبل العلى

وانفض عن الجفن الوسن

ودس الصعاب ولا تخف

جيش النوائب والمحن

وافتك بأعداء البلا

د تُزل جراثيم الضَّغن

ترب البلاد وديعة

وعليه أنت المؤتمن

فاحرص عليه واجعل الـ

ـصدر القوى له مجن

واعمل على توحيد شعـ

ـبك في الخفاء وفي العلن

إن نتّخذْ بَرْقَ البلا

د وتزدهر فيها الدمن

ويعز أهلوها بفضـ

ـل العلم والخلق الحسن

ما أفنت الأمم العظا

م سوى الجهالة والفتن

أما غزله فمن النوع الأنيق، يمتاز بسحر الوصف ورقة المعاني، وفي قصيدة عتاب أسرار قلبه المضطرم يلهب عاطفته المتأججة:

أرى في مقلتيك مُنَى شبابي

فتخمد نار وجدي واكتئابي

دليلي في الهوى سكران يمشي

إلى سبل الصبابة باضطراب

يرف لواء حبك في فؤادي

كجنح النسر رفّ على السحاب

لكل معذب سلوى وإني

أرى السلوان يعرض من عذابي

شربت الخمر من عينيك لما

دعاني هدب جفنك للشراب

رعاك الله كم أسكرت نفسي

وكم أيقظت شكي وارتيابي

بنى قلبي من الآمال صرحاً

ولكن عاجلته يد الخراب

إذا كفكفت دمع العين ألقى

دماء القلب تدفق من إهابي

تعالي فالسهاد يعض جفني

ونيران الهوى تفني شبابي

يحاريني صدودك كل يوم

فألقاه بجيش من عتابي

وله في الشعر الغنائي جولات بارعة، فمن يقرأ قطعة (يا جدول الوادي) يهيم في سماء الخيال، فني مقاطعهما المرصفة بالدر والماس رنة تخفق لها القلوب، روعة وشجناً وطرباً، كأن مجموعة من العرائس ينشدن مقاطعها الخلابة في تيه ودلال على مسمع من الملائكة:

يا جدول الوادي

يا ساقي الريحان

سلسالك الشادي

قد هيج الأشجان

سر في حمى الهادي

بين السنا والبان

يا مورد الأطيار

ردد أناشيدك

واعطف على الأزهار

إن قبلت جيدك

واستقبل السمار

وانشر أغاريدك

خفف لظى الرمضاء

والثم ثغور الآس

وارحل إلى الدأماء

حرًّا رفيع الرأس

وانثر لجين الماء

كالدر أو كالماس

علم غصون البان

والحور والصفصاف

والنرجس الغيران

والورد والقطاف

أمثولة الإحسان

والعدل والإنصاف

يا طاهر الأذيال

ذكراك في قلبي

تحيا بها الآمال

يلهو بها لبي

يا حلو يا سلسال

ذرني وذر حبي

ذرني أنادي الغيد

علّي أرى بدري

أو ألمح الغريد

يحنو على كسري

يا دائم الترديد

شرعي الهوى العذري

هل تعرف الحبا

يا أيها الصداح

والبؤس والكربا

والهم والأتراح

هل ترحم الصبا

والعاشق النواح

هل كنت ولهاناً

يجفوك من تهوى

هل نحت أحياناً

من وطأة البلوى

أم عشت أزماناً

بالهجر والشكوى

هل أنت يا رقراق

مثلي حزين البال

تشكو مع العشاق

حر الهوى القتال

أم هل ترى الخلاق

نجاك من أهوال

كم مغرم ناجاك

يا جدول الوادي

والشعر كم حياك

والزهر والشادي

سبحان من حلاك

في مقلة الصادي

وقد تهافت الملحنون والمطربون للتغني بشعره الغنائي الرفيع، وهذه قصيدة بعنوان (ذكراك) لا تحتاج معانيها إلى تحليل وتقريظ، وقد غنتها نور الهدى ولحنها الموسيقار خالد أبو النصر قال:

هاتي من الشفتين هاتي

متع الهوى وغذا الحياة

واسق الهيام طلا الحنا

ن فأنت أم المحسنات

وتداركي أملي الصريـ

ـع بنظرة قبل الفوات

إني لقيت من العيو

ن السواد ما أرضى غداتي

سهّدْنني وفعلن بي

فعل الأشعة بالنبات

يا رب غمزة مقلة

حملت خطاب الساكتات

لغة العيون كما أقر

الحب معجزة اللغات

مالي أراك فلا أعي

أفأنت إحدى الآلهات

حيرتني وجرحت ودي

بين صد والتفات

وكسوتني حلل العذاب

كأنني أحد الجناة

وتركتني هدف العيون

الهازئات الشامتات

لكن صبرت على الضنى

وحبست يا ليل شكاتي

ورجعت أحلم بالمنى

وأصوغ عقد الذكريات

ذكراك رؤيا الحب تسـ

ـطع في الليالي الحالكات

ذكراك تدخل هيكلي

فتكاد تنسيني صلاتي

ذكراك دغدغة الفتو

ن تروح في أعماق ذاتي

لقد قرظ ديوانه (خيوط الغمام) أشهر الشعراء والأدباء، وهو كثرة المهام الملقاة على عاتقه كأستاذ مدرس وأديب صحفي ورب أسرة كبيرة، فإن قريحته تجود بأفضل النثر والقريض، ولو تفرغ لنظم القوافي لبزّ في إنتاجه أترابه.

أحواله الخاصة: اقترن بتاريخ 30 تشرين الأول 1936م بالآنسة روز إسطمبولي المولودة في بيروت، فأنجبت له جورج وفوزي ورياض وغسان وزهير، وكلهم في مراحل الدراسة، ولعل لها الفضل بإشعال جذوة نبوغه.

إن هذا الشاعر النابغة عزيز على المؤلف، فقد أحبه قبل أن يراه لعلو كعبه الأدبي، فقد طارت شهرته الأدبية في القارات الأمريكية بشكل خاص، وسيبقى عباق السجايا والمآثر أبد الدهر.

*  *  *

 



([1] (أ) (1/ 349 ـ 351).

الأعلام