جاري التحميل

عبد الهادي الوفائي

الأعلام

عبد الهادي الوفائي([1])
الشاعر والفنان المبدع المرحوم الشيخ عبد الهادي الوفائي الحمصي

ولد المترجم المرحوم الشيخ عبد الهادي الوفائي سنة (1834) ميلادية في عهد كانت تزخر بكثير من الشعراء والفنانين، فكان أحد نجومها الساطعة، فقد تجلت مواهبه منذ صغره، ودلت على أنه سيكون يوماً ما أحد الأعلام النوابغ في العلم والفن.

تلقى رحمه الله علومه الفنية وعلم العروض والموسيقى عن والده المرحوم الشيخ عمر الوفائي الذي اشتهر في عصره بالعلم والفضل والصلاح.

تنحدر عائلة الوفائي من أصلاب كريمة في الحسب والنسب، ورثت في حمص عقارات وقفية قديمة العهد، وأنجبت علماء وأدباء كان لهم القدح المعلى في خدمة العلم والمجتمع.

لقد أنعم الله على المترجم بمواهب فذة كانت محط الأنظار، أبرزها سحر منطقه ونكاته الطريفة، أما نوادره الارتجالية فقد كانت معيناً لا ينضب، عاش من العمر (65) سنة قضاها بالعز والتكريم، إذا طرق باب التنكيت استوى الناس في صمت وسكون، يصغون في صفاء إلى حديثه العذب، ترمقه عيون المعجبين بفنه وأدبه وأنسه، وإذا غنى استحوذ بشدوه وألحانه المؤثرة على القلوب فأدماها بصوته المتموج البديع وعزفه على الناي، أضف إلى مواهبه هذه خلقه الكريم وصلاحه ورزانته وعزة نفسه.

شعره: كان شاعراً رائق الأسلوب قويًّا في النظم والوصف، وله قصائد كثيرة تربو على المئتين، منها قصيدة في رثاء صديقه المرحوم الشاعر الفنان الشيخ مصطفى زين الدين الحمصي صاحب المعارصات الهلالية في وصف المآكل، رأيت نشر بعض أبيات منها نظراً لطرافتها، ومطلعها:

عزوا المآكل سادتي وتفقدوا

ألوانها بالأكل حتى تزهدوا

قد مات ناعتها الذي ما مثله

بين البرية ماجد وممجد

حبر له بالأكل نظم رائق

لكنه في مدح طه مفرد

ثم جعل الشطر الأخير تاريخاً فقال:

مذ غاب ذاك البدر قلت مؤرخا

يا مصطفى أنت الحبيب المرشد

كان يهوى مناظر العاصي ومنتزهاته الخلابة ويراها أبدع ما في الكون، وقد أرسل إليه صديقه المرحوم عبد القادر المقدرو الخانكان رسالة يصف له فيها مناظر حلب ومعرة النعمان ومنتزهاتهما، فأجابه بقصيدة تربو على (150) بيتاً ومطلعها:

ما حمص إلا رياض الأنس دع حلبا

فلا تحدث يا مقدرونا كذبا

الله أكبر كم في حمص منتزه

يخاله جنة من أمه طربا

ثم يعدد منتزهات حمص ورباها وعاصيها وضواحيها حتى أتى إلى وصف خميس الحلاوة في حمص حيث قال:

من بعده يأتنا يوم تلوح به

حلاوة أكلها عند النسا وجبا

أهل القرى ينقلوا عن جدهم خبرا

من لم يذق طعمها في عامه جربا

ثم يصف خميس المشايخ، وكيف يكون ركب مشايخ الطرق ركباً بعد ركب بيومي الخميس والجمعة، ويختمها بالصلوات على النبي الأعظم ﷺ.

رحلاته: لقد طاف المترجم البلاد السورية لأسباب تجارية وزيارة أحبابه، وفي سنة 1873م ذهب إلى الجندية الرديفية وجاب استانبول وجناق قلعة والروملي وغيرها من البلاد التركية، واستخدم كاتباً في قلم الطابور، تعرف خلالها على كثير من الموسيقين الأتراك، واستفاد من فنونهم، فتأثر بها، وأظهرها في منظوماته وألحانه، كان كلما سافر إلى بلد يدون مآثرها ومعالمها وما وقع له فيها بقصيدة للذكرى.

تآليفه: ألف الفقيد كتاباً أسماه (التاريخ)، وهو كبير الحجم حصر فيه جميع ما حدث في عهده في حمص ودمشق من وقائع، كما حصر أفاضل الناس وأعمالهم مبتدئاً بشيخه (الطزقلي) والشيخ سليم خلف والشيخ سليم صافي ومآثرهم وأحوالهم.

له ديوان حافل بالقصائد الأدبية والتاريخية والفكاهية والموشحات والقدود الغنائية، وقد اشتهر أمره وزاع صيته وملأت منظوماته الأمصار، ولم يخرج في جميع منظوماته عن دائرة مدح الرسول الأعظم ﷺ ومدح شيخه في الطريقة النقشبندية الشيخ سليم الخلف، إذ كان شديد الحب والوفاء له.

فنونه: لقد تلقى الفقيد الفن الموسيقي عن والده وعن أبي خليل القباني الفنان الأكبر رحمه الله لما أقام في حمص مدة طويلة، وقد لازم حلقاته واستفاد من فنونه ومواهبه، فكان عليماً بأصول النغمة والأوزان، يساعد صوته الشجي على جودة الإلقاء بجولات فنية رائعة وإتقان العزف على الناي.

لقد نظم الفقيد خمس روايات تمثيلية بزمن تمثيل روايات القباني بدمشق، وهي رواية (رعد، نسيم، كوكب الإقبال، درغام، أبو حسن)، وقد مثلت وخصصريعها للمشاريع الخيرية، ونالت إعجاب الناس واستحسانهم لطرافة مواضيعها وبلاغة معانيها.

أما موشحاته وقدوده ـ وهي من نظمه وتلحينه ـ فكثيرة، تبلغ زهاء المئة، وجميعها مشهورة ومحفوظة في صدور أهل الفن في حمص وحلب ودمشق وغيرها من الأمصار، وهي مقامات الراست والنهوند والجهار كاه والبياتي والحجاز والسيكاه، كان يلقنها أولاده وأقرباءه من ذوي الأصوات الجميلة ويتلقاها المنشدون والمداحون، فاشتهرت ألحانه وانتشرت بين الناس.

وفاته: لقد وافاه الأجل المحتوم متأثراً من رشحة صدرية، وذلك في الخامس من شهر ربيع الأول سنة 1328ﻫ ـ 1909م، ودفن بمقبرة التركمان في حمص بجانـب شـيخه سـليم خلف، وأعقـب ولدين هما عبـد الحميد وعبد اللطيف، رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه.

*  *  *

 



([1] (أ) (1/ 42 ـ 43).

الأعلام