عبده الحمولي
عبده الحمولي([1])
(1845 ـ 1901م)
مولده ونشأته: ولد المرحوم عبده الحمولي بمدينة طنطا سنة 1262ﻫ ـ 1845م، وكان والده الملقب بالحمولي نسبة إلى أسرة الحمول ـ وهي بلد الحمولي من أعمال مركز مديرية المنوفية ـ يمارس تجارة البن، وكان له أخ أكبر منه سناً وقع بينه وبين أبيه شقاق ففر بأخيه الصغير وهاما في الخلوات مشياً على الأقدام، وقد التقيا بالمعلم شعبان فآواهما، وكان المضيف يشتغل بصناعة الغناء والعزف على القانون، فافتتن بصوت عبده الرخيم وعاد به إلى طنطا، واشتغل معه مدة، ثم حضر به أخيراً إلى مصر واشتغل بقهوة عثمان آغا المشهورة التي كانت موضع حديقة الأزبكية، وقد زوجه بابنته طمعاً بالاستئثار به دون المنافسين له بمزية استغلال مواهبه العبقرية، ودخل بينها (المقدم) المغني المشهور، وتوصل بدهائه إلى توسيع شقة الخلاف بينهما، فطلق عبده ابنته، وألحقه بفرقته.
فرقة الحمولي الفنية: وذاع صيت المترجم وطبقت شهرته الآفاق فرغب في الاستقلال بعمله الفني، فألف فرقة موسيقية تشبه مدرسة أو جامعية فنية متنقلة، يتعلم فيه المحترف جمال الفن، ويتضلع قواعده الأساسية، ويقف على أصوله وفروعه، وكان التخت يتألف من محمد العقاد عازف القانون الشهير، وحسن الجاهل عازف الكمان، وأحمد الليثي على العود، ومحمد الشامي ضابط الإيقاع، وكان الخديوي إسماعيل باشا يشجع الفن والفنانين، فرتب للحمولي (15) جنيهاً مرتباً شهرياً، ولكل من المغنية ألمز وبقية أفراد الفرقة (10) جنيهات، واستمروا يتقاضون هذه الرواتب حتى انقطت في عهد الخديوي عباس.
سفره إلى الأستانة: لما سافر الخديوي إسماعيل باشا إلى الأستانة ألحقة بمعينه، وقد استمع إلى الفنانين الأتراك، ولما عاد إسماعيل باشا إلى مصر جلب معه فرقة من أكابر المغنين، فكان يعاشرهم، فاستمالته ألحانهم، وأخذ عنهم مقامات غير معروفة في مصر، فنقلها إلى أدوار الغناء المصري وأنعش بها الطريقة القديمة، وقد استنكر الفنانون طريقته وابتكاراته في أول الأمر، ثم تغلب عليهم وصهرهم بعبقريته الفنية، وقد مارس الفن أكثر من أربعين عاماً لم يضارعه فيه مضارع، وانحصـر فيـه الغنـاء والابتكـار، فصـار الكل له مقلدين يأخذون عنه ولا يبلغون شأوه، وقد سافر إلى الأستانة مرة ثانية وخطي بالمثول في حضرة الخليفة، وأعجب بفنه وصوته، ثم أخرج منها بمساعي الشيخ أبي الهدى الصيادي، ولقي من غلظة الجند وسوء معاملتهم شيئاً كثيراً، وعاد إلى مصر وقد أثرت في صحته.
فنه: وكان وحيد عصره وفريد دهره، فجدد في الغناء والتلحين وأبدع، وهو الذي نهض بالموسيقى بعد تأخرها، ولحن الكثير من الأدوار المشهورة وكانت طريقة اختراعه وابتكاره تدل على عبقريته الفنية وسمو ذوقه، كان شديد الحفظ، يسترسل في النغمة وينتقل من نغمة إلى أخرى بتصرف وبراعة.
حياته: لقد تزوج هذا الفنان الخالد خمس زوجات، كانت الزوجة الأولى ابنة المعلم شعبان من طنطا، والثانية المغنية ألمز، والثالثة وقد أنجبت له (محموداً)، والرابعة وقد رزق منها بنات فقط، وتزوج محمود العقاد الكبير من ابنة الحمولي الثانية، وزوجته الخامسة هي (جولنار) وهي سيدة تركية، وقد أنجبت له محمداً، وكان حين وفاة والده يبلغ من العمر أربع سنوات، وقد عنيت والدته بتربيته فأتم دراسته في ألمانيا وأصبح طبيباً.
زوجته ألمز: كانت تجمعهما المناسبات في الأفراح، وكانت تغني أدواره فتجيد وتسحر، وقد اقترن بها ومنعها من الغناء، وقد أمر الخديوي إسماعيل باشا ذات ليلة إحضارها لتغني في بعض قصوره، فامتنع الحمولي زوجها عن إطاعة الأمر، وتوسط الشيخ علي الليثي ـ وكان شاعر الخديوي ونديمه ـ في هذا الأمر حتى رجع الخديوي عن طلبه، وكانت هذه الحادثة سبب اضطراب أعصابه وابتلائه بداء الصداع الذي لم يفارقه طول حياته، ولم تنجح في ذلك معالجة الأطباء.
اشتغاله بالتجارة: وقد عمد في أيام إسماعيل باشا فترك مزاولة الفن بالأجر بين الناس، وخرج من زمرة الفنانين وزاول التجارة، وافتتح محلًّا لتجارة الأقمشة، واشترك مع بعض التجار بمبلغ عشرين ألف جنيه، وانتهى الأمر بخروجه من تجارته صفر اليدين، ودعته حاجة العيش إلى العودة لمزاولة الفن، وقد أهداه سليمان باشا أباظة مزرعة واسعة، فمات عنها وورثها بناته.
أمراضه وآلامه: لقد قضى ثلثي أيام حياته في المرض، والثلث الباقي في مراعاة خواطر الناس، أصيب بخراج الكبد مرتين، وبالتهاب الرئة سنة 1888م، فكان ينفث الدم، وسكن حلوان ووقف سير الداء فيه، ولما سافر إلى الأستانة عام 1896م في المرة الثانية عاد إلى مصر وقد أثرت في صحته ما لقيه من عنت وتنكيل، فأصيب بداء البول السكري الذي أنهك جسمه، وظهر فيه داء السل في الدرجة التي لا يرجى معها شفاء، فأقام في سوهاج سنة 1900م فترة، ثم عجل بالعودة إلى مصر يسجل ألحانه طلباً للعيش، ولم يكن يؤمن بقيمة القرش الأبيض للحاجة إليه في اليوم الأسود، لقد ربح آلاف الجنيهات ولكنه كان يبعثرها بلا حساب.
ولكن الله كان رحيماً به في أخريات أيام حياته، لقد أصبح فقيراً بائساً، ولكن صديقه باسيل العريان وكان من كبار تجار السمك ابنتى له منزلاً في حلوان أنقذه من التشرد بعد أن كان لا يجد أجرة الفندق الذي ينزل فيه أو المنزل الذي يؤويه.
ويشاء القدر أن يفقد باسيل المذكور ثروته هو أيضاً، فيعجز عن معاونة الحمولي الذي كان قد أصيب بالشلل واشتدت به الفاقة، وهناخف الشيخ سلامة حجازي والشيخ يوسف المنيلاوي رحمهما الله لمساعدته.
صفاته: كان تقيًّا صالحاً كريماً عطوفاً على الفقراء، ونوادر مواساته كثيرة، وفيها عظة وعبرة، وكان عظيم البر بأهله، يدفع في كل شهر مرتبات لعائلات المحتاجين ممن اشتغل معه من أهل الفن وغيرهم، وقد أنفق أكثر ما اكتسبه على وجوه الخيرات، ولو أمسك يده لترك ثروة طائلة، كان عظيم التواضع، طلق الوجه واللسان، يغضب للحق، وله وقائع مشهورة مع بعض أرباب المناصب الكبيرة فضح فيها أخلاقهم في مواجهتهم وسط المجالس الكبيرة، فخرجوا من أمامه بالذل والصغار.
وفاته: وفي فجر يوم الأحد 12 مايس 1901م قضى نحبه ودفن في مقبرة باب الوزير، ورثاه أمير الشعراء بقصيدة طويلة.
* * *