عثمان الموصلي
عثمان الموصلي([1])
لكل عبقري آية وعبقرية الضرير الجبار المرحوم ملا عثمان الموصلي العراقي انبثقت عنها آيات بينات من المواهب الشامخة
أصله ونشأته: هو الحاج عثمان بن الحاج عبد الله بن الحاج فتحي بن عليوي المنسوب إلى بيت الطحان، ولد في بلدة الموصل سنة (271) هجرية ـ (1854) ميلادية، وشاء القدر أن يعيش يتيماً، فتوفي والده قبل أن يبلغ السبع سنين، وقسى عليه الدهر ففقد بصره على صغره، ولما ترعرع تولته عناية الإلهية، فرآه المرحوم السيد محمود العمري وتفرس به النجابة والذكاء وأنه أهل للتربية والعطف، فأخذه إلى بيته وخصص له من يحفظه القرآن الكريم بصورة الإتقان مع ما ينضم إلى ذلك من طيب الألحان، فأتقنها كلها، وحفظ أيضاً جانباً وافراً من الأحاديث النبوية الشريفة، والسيرة المحمدية، ورتب له من يلقي عليه علم الموسيقى للاستفادة من مواهبه وصوته الحسن، وحفظ من رقائق الأشعار وغرائب الآثار ما جمع فأوعى، كان سريع الحفظ لطيف اللفظ، فنشأ قلعة من أدب وفرزدقة من لباب العرب.
لقد كان رحمه الله ضريراً لكنه بكل شيء بصير، ينظر بعين الخاطر ما يراه غيره بالناظر، وبقي في خدمة مربية المرحوم السيد محمود العمري إلى أن توفاه الله.
ذهابه إلى بغداد: وكان المرحوم أحمد عزت باشا العمري بن السيد محمود العمري إذ ذاك في بغداد، فزارها ونزل عنده يعيد ويبدي وفاء للحقوق التي يبديها ولا يخفيها متردياً بظاهرها وخافيها، فتلقاه ملاقاة الأب والأخ، فتهادته أكف الأكابر وحفت به عيون الأصاغر، وتجلت آيات نبوغه الكامن للعيان، فأصبح في بغداد فاكهة الأدباء والظرفاء، واشتهر أمره وذاع صيته بحسن صوته وقراءة المولد الكريم، فأومض فيها برق اسمه، وبقي في الزوراء تهب عليه ريح النعمة والرخاء حيث يشاء، وأمسى عند كل ذي جلدة ما بين الأنف والعين، وخلال مدة وجوده في بغداد حفظ صحيح الإمام البخاري على المرحومين الشيخ داود وبهاء الحق الهندي المدرس الثاني في الحضرة العلوية، فكان يتقاضى على قراءة المولد النبوي مبلغ (50) ليرة عثمانية، وهو مبلغ ضخم بالنسبة لذاك العهد، وينفقها بأجمعها على أصحابه والفقراء والمعوزين من الفنانين، وتحدث الناس بسخائه، فكانوا يصفونه بأنه أكرم من الغيث المنهمل على البطاح الظمأى.
وسافر إلى الديار المقدسة فأدى فريضة الحج، ثم عاد إلى مسقط رأسه الموصل وقرأ فيها القراءات السبعة على حيدرة العراق المرحوم محمد السيد الحاج حسن، وأخذ الطريقة القادرية من المرشد المرحوم السيد محمد النوري.
سفره إلى الأستانة: وكانت نفسه صراعاً بين القناعة والعيش في مجتمع محدود وبين الطموح للعيش في مجتمع أوسع مدى وحياة أفضل تظهر فيها آيات مواهبه وعبقريته، فتوجه من الموصل راحلاً إلى الأستانة، ونزل بغرفة في جامع نور العثمانية الكائن بحي (شنبرلي طاش)، وقرأ في جامع أياصوفيا الشهير جزءاً من القرآن الكريم، وكان من أعظم القراء المجيدين الذين أوجدهم الله في خلقه على الإطلاق، فأثر جمال صوته وورعة تجويده على مشاعرهم فأبكاهم، وهرع إليه عظماء الأستانة من فضلاء وأدباء وفنانين يستطلعون خبر هذا القارئ الضرير، فطارت شهرته في الآفاق، وأصبح قبلة المجتمع العلمي والفني، وكان أول من التف حوله قراء الأتراك، فأخذوا عنه علم التجويد، وتاق لرؤياه أكابر الأمراء والعلماء والفنانين، وغدوا يتهادونه ويدعونه إلى حفلاتهم للاستماع بروائع فنونه، ولما رأى ما وصل إليه حاله من عز وتقدير لمواهبه طابت له الإقامة، واستحضر عائلته من الموصل، واستأجر داراً صغيرة واقعة بجوار جامع نور العثمانية، وأقام مدة طويلة في الأستانة، كانت أيام عهده من غرر الدهر.
رحلة الشتاء والصيف: ولما برزت آيات نبوغه تولع به عظماء العراق ونوابها في مجلس المبعوثين أمثال محمد وشاكر وعلاء الدين وحسان الدين من أسرة الألوسـي المشـهورة، والشـيخ يوسـف السويدي، وآل الحيدري، والسيد محمد السكوتي، والسيد إبراهيم الراوي شيخ الطريقة الرفاعية في بغداد رحمهم الله، وهاموا بمواهبه وفنونه افتتاناً، فكانوا يأخذونه معهم إلى استانبول في الصيف ويعودون به إلى العراق عند موسم الزيارة في كربلاء ليقرأ لهم المراثي في أهل السبط الشهيد الحسين بن علي رضي الله عنهما، ويرون بوجوده بالقرب منهم نعمة أنعم الله بها على المجتمع، ويتمتعون بروائع فنونه ومواهب صوته الشجي وبلاغة شعره ونثره وطرائف نكاته وأفانين أحاديثه.
فنونه: لقد صدق المثل القائل: (كل ذي عاهة جبار)، فقد تعلق هذا النابغة الضرير بالفن الموسيقي، فتعلم من تلقاء نفسه العزف على آله القانون، وهي كثيرة الأوتار صعبة المنال في ضبط مقاماتها، ثم تعلم العزف على الناي، فأتى بغرائب الإعجاز، فكان لا يستعمل في قانونه العربات التي تستعمل عادة لإخراج أنصاف الأرباع، بل كان يتلاعب بأنامله وأطراف أظافره، فيخرج النغمات سليمة شجية مما لم يسبق لغيره أن أتى بمثله.
وتطاولت عبقريته على فناني الأتراك اللامعين، فكانوا يرون أنفسهم لا شيء بالنسبة لفنون هذا الضرير الجبارة، ويتسابقون لزيارته ويستقون من ورده الصافي أعذب الموشحات والألحان، ويشهدون بأنه تحفة عجيبة وهبها الدهر للناس لينعم بعبقريته البشر.
ولما كان الفقيد النابغة شاعراً ضليعاً باللغتين التركية والفارسية فقد شهد له شعراء الأتراك والعجم بأنه أعجوبة الدهر.
علاقته بالشيخ الصيادي الرفاعي: وتعرف في الأستانة على رجل الدولة وواحدها الصارم الهندي المرحوم الشيخ أبي الهدى الصيادي الرفاعي، ونال حظًّا وافراً من عطفه، وأخذ عنه الطريقة الرفاعية، وكان الصيادي رحمه الله يهيم بهم حبًّا وإعجاباً بفنونه وعلمه، ويجل قدره ويعظم مواهبه، ولا يسمح لأحد مهما علا شأنه مـن ضيوفـه العظام بالتدخين فـي حضرتـه إلا للضرير العبقري، فقد (عرف الحبيب مكانه)، فكان يتيه عجباً ودلالاً، ويدخن في حضرته وينبسط بالحديث معه للاستمتاع بفصاحته وخفة روحه وفنونه ودرر طرائفه، ويستوحش لفراقه، وينتظر زياراته له بفارغ الصبر.
وزار مرة الفقيد المترجم الصيادي في تكيته، وذلك سنة 1903م، وفوجده قد انتهى من تأليف رسالة اسمها (خلاصة البيان) فوجم قليلاً يستوحي النظم، وقال مرتجلاً يؤرخها:
(والموصلي مرتجلاً أرخها | خلاصة البيان مجدنا بها) |
سنة 1320ﻫ
واجتمع الموصلي بالصيادي في مجلس أنس وطرب، فجادت قريحة الصيادي بنظم بيتين من الشعر الارتجالي، فقال:
قلت لما خفق القلب جوى | حين شامت قرطك الخفاق عيني
|
كنت لا تملك إلا خافقا | فهنيئاً لك ملك الخافقين |
وقد لحنها الموصلي على البداهة وغناها من مقام الحجاز كار، فبكى الصيادي من روعة صوته الرخيم ولحنه البديع.
فاجعته بولده: لقد ابتلى الدهر الفنانين واكتنف حياتهم بنكياته ومآسيه، ومن درس تاريخ حياة النوابغ والعباقرة تحقق أن التنكيل بهم كان بالنسبة إليهم فواجع وأسى وحسرة، وإلى البشرية نعمة وهدى ورحمة، إذ لولا تلك الفواجع لما كانت هناك أجفان مقرحة وقلوب ممزقة، فعصرت الآلام قرائحهم فجادت بمعجزات بينات.
ومن هؤلاء العباقرة صاحب هذه الترجمة، فقد أبى الدهر إلا أن يمعن بالقسوة عليه، فعكر صفو حياته وهو في ذروة عزه ومجده الفني، فاختطف الموت فلذة كبده الوحيد (يونس) وهو في ريعان شبابه، وقد ذهبت الفاجعة بلبه وبقي ساكناً لا تدمع له عين، ورثاه بالمراثي المؤثرة المبكية، وقد ظفر بقلوب عطوفة ومشاعر كريمة، فكان الناس إذا شاهدوا قسمات وجهه وقد اكتست بانطباعات الأسى والحزن شاطروه أساه، وكأن الأقدار التي لا ترحم قد استحالت إلى أرواح حساسة، فابتلته بهذه المصيبة ليحزن قلبه وتأتي قريحته ومواهبه بالخوارق.
بدائع ألحانه: هناك طائفة من الفنانين جهلتهم أجيالهم، وبعد وفاتهم عرف الناس أقدارهم فغمروهم بالثناء والإجلال، لقد اشتهر هذا العبقري الخالد، ولكن أحداً لم يكتب عنه ونسيه الناس، أما الدهر الذي اعتاد التنكيل بالفنانين ليجودوا بنفائسهم فهو لا ينساهم ولا يخلدهم بآثارهم ومآثرهم.
لقد أكد الذين عاشروا هذا الجبار المارد في الأستانة أن الوسط الفني فيها كان أوج عظمته في عهده، وقد تطاول هذا الضرير الغريب بعبقريته على فطاحل الفنانين الأتراك، واستصغروا شأن أنفسهم وفنهم بالنسبة لجبروته الفني، فقد تجمعت في هذا النابغة مواهب عز نظيرها بغيره كما سأوضح ذلك عند المقارنة بين أفضلية عباقرة الفن ومواهبهم.
لقد كانت آيات صوته الشجي الرخيم وبلاغة نظمه وقوة ألحانه وبراعة إنشاده وعزفه على القانون والناي مضرب الأمثال، وقد التف حوله مشاهير الفنانين الأتراك، وفي طليعتهم سامي بك صاحب أكبر جوقة تركية شهيرة، والمغنية الذائعة الصيت بصوتها وفنها (نصيب)، وأخذوا عنه الكثير من الموشحات والغزل التركي، وافتتن الأتراك بفنونه، فدانت لعبقريته المواهب.
وقد رأيت للذكرى والتاريخ إثبات بعض موشحاته وألحانه التركية ليطلع عليها عشاق الفن، وهي أشهر من أن تذكر، ويكفي الاستدلال على عظمة فنونه أن أبا خليل القباني الفنان الشرقي الأعظم والفنان المصري عبده الحمولي أخذا عنه الموشحات والنغمات التركية في استانبول، ومزجاها بالموشحات والأدوار العربية، فقد كانت نغمات الحجاز كار والنهوند وفرعهما مجهولة في مصر والبلاد العربية.
أما نظمه وألحانه العربية الكثيرة فحدث عن روعتها ولا حرج، ولعمري فتاريخ حياته الحافل بالمواهب وحصر نبوغه أكبر من أن يحصى ويوصف، ويكفيالإلماع عن بعض ألحانه وعظمة تأثيرها في النفوس ليدرك عشاق الفن أن هذا الضرير الجبار هو نابغة الزمان، ولم يأت بين الشعراء والفنانين من قبل من يماثله في نبوغه المتشعب، وهيهات للدهر أن يجود بمثله.
لقد جرت العادة أن يهدى الملوك عند تسنمهم عرش الخلافة قطعات من الستار النبوي إلى مقامات الصحابة والأولياء في الأقطار الإسلامية، وقد أهديت قطعة منه إلى مقام موسى بن جعفر الصادق رضي الله عنه في بغداد، وقد احتفل بوضعها بمقامه الشريف، فنظم شاعر العراق الأكبر المرحوم عبد الباقي الفاروقي خريدة عظيمة عصماء هذه بعض أبيات منها، وقد لحنها المترجم العبقري وغناها من مقام السيكاه، فشق مرائر ألوف الجموع المحتشدة لسماع صوته الرخيم وبدائع إنشاده المؤثر:
وافتك يا موسى بن جعفر تحفة | منها يلوح لنا الطراز الأول |
قد جاوزت قبراً لجدك فاكتست | مجداً له انحط السماك الأعزل |
وتقدست إذ جللت جدثاً ثوى | في لحده المدثر المزمل |
طولى لكم من وارثين فقد غدت | آثار جدكم إليكم تنقل |
كان رحمه الله ضليعاً في علم الأوزان، والمرجع المكين في الإيقاع، يهوى الاستماع إلى الغناء الإجماعي في إنشاد الأدوار والموشحات والقدود المرقصة، ويرهف السمع إلى ضروب الإيقاع على (الدرنكات)، ويفرض أن لا تقل عن عشرين (درنكة) عراقية ينقر فيها بالأصابع والقضبان الصغيرة كالنقرزان، فإذا شذ أحد الضاربين وأخطأ بضربة (دم أو تك) أثبته، وأشار إليه بيده إلى الخطأ الواقع، وكان شديد الوعي والحس، يحيط بكل ما هو حوله، يعتمد في تلحين موشحاته من مختلف المقامات والأوزان على المهرة من ضاربي الإيقاع.
وهذا موشح رائع نظمه الشاعر الفاروقي، وهو يتألف من إحدى وأربعين مقطعاً، لحن كل مقطع منه بنغمة ووزن، وجعل المقطع الأول كلازمة من مقام البياتي الشوري ووزن السماعي الثقيل، وجاءت نغمات المقاطع آية في الانسجام مع أوزانها:
من لصب كلما هبت صبا | هب من رقدته في فزع |
وإذا عنّ له برق أضا | أسعر الأحشاء في نار الغضا |
ومضه يحكي الحسام المتنضى |
وكان رحمه الله يحب نظم الغزل، وهذا موشح من تخميسه وألحانه، والأصل للشاعر النحاس:
على ورد خديك آس أطل | فقلت قد اخضر روض الأمل |
ومذ رمت أقطفه بالقبل | حميت الأسيل بحد الأثل |
أجل، ما لحاظك إلا أجل | |
صبيًّاعشقتك حتى اكتهلت | فطوراً عدلت وطوراً عذلت |
وفي الحالتين لذذت على ما | فعلت بحبك لا بل ذللت |
وحكم الصبابة ما لذ ذل | |
تثنيت تيهاً وأنت الحبيب | وأمرضت قلبي وأنت الطبيب |
ولما سعى بي إليك الرقيب
| ملك وملت وأنت القضيب
|
فمل كالقضيب وخل الملل |
ولحن هذا النابغة ما لا يحصى من الموشحات والمواويل على نغمات شتى، وهذا موشح صوفي من نظم الشيخ مهدي الرواس لم ينشر بعد، وقد لحنه المترجم العبقري الأوحد من نغمة السيكاه:
أقلقت قلبي بالجفا | يا أيها الظبي الجفول |
بالله أنعم بالوفا | فالشمس مالت للأفول |
من وجهك الفجر استبان | والخصر أبدى غصن بان |
ارحم وجد فالصبر فان | عني وجسمي في نحول |
وهذا نموذج من موال عراقي زهيري مسبع من نغمة السيكاه، نظمه أحد أشراف سادات النعيم ولحنه المترجم ارتجالاً:
نار المحبة نبات ضمائري فاطمه | ورضيع صبري تعنّد بالهوى فاطمه |
من حيث سحب التجافي سيولها فاطمه | أضحيت كالحاير المبهوت في كربلا |
وبلابل القلب مني بين كره وبلا | أنا روحي أسيرة من يوم قالوا بلى |
يا ابن العواتك دخليك يا أبو فاطمه |
شعره: كان قويًّا في نظم قوافي الشعر، انقادت لقريحته الجبارة البلاغة والفصاحة، فأبدع معانيها، ومقامه في الشعر أجل من أن يحتاج إلى وصف، فكان المعجبون بعلمه وأدبه وفنونه لا يفارقون هذا الضرير الذي هو بحاجة للعطف والخدمة، ويستعين بهم بكتابة ما يمليه عليهم من نظم ونثر ينفثهما من فيه كالدرر النفيسة، فإذا انتهى من نظم أصغى إلى ما يتلى على مسامعه، ونقح ببيانه البليغ ما شاء، وأكد ذلك الذين احتاطوا به كظله بأن ما كان يأتي به يحار في إدراكه أفصح البلغاء.
وهذه شذرات متفرقة من تخميسه قصيدة الإمام البوصيري الشهيرة: (وجاء المسيح من الإله رسولا)، التي لم يقتحمها ناظم قبله ولا ناثر، وقد بدأ بتخميسها في مدينة بيروت، وسماها (الهدية الحميدية الشامية على القصيدة اللامية في مدح خير البرية)، وهي قصيدة تجاوز حد الإعجاب إلى الإعجاز، وحيث ما أنشدت بمحضر إلا قالوا: إن هذا إلا سحر يؤثر:
سجعت بلابل صحفه وترنحت | سكراً وعن أوصاف طه أفصحت |
ظلمات نكر الخصم مهما لوَّحت | فالأرض من تحميد أحمد أصبحت |
وبنوره عرضاً تضيء وطولاً | |
ورق الأمان بها توالى سجعها | وسما على الحوض المكوثر نبعها |
فيها تشرف من حواه ربعها | وتشرفت باسم جديد فادعها |
حرم الإله بلغت منه السولا | |
يأتي لها من كل فج أعمق | شعث على النيب القلاص السبق |
قد جاوزت عدل الغني المطلق | ونأت عن الظلم التي لا تتقي |
لخصابه شيب الزمان نصولا | |
عين اليقين قد انجلت بظهوره | لأولي البصائر عند كشف ستوره |
مذ زال عن قلبي عمى ديجوره | قارنت ضوء النيّرين بنوره |
فرأيت ضوء النيّرين ضئيلا | |
ذو الطول أنتج من سناه أهلة | من نورها اكتست الكواكب حلة |
هو ذا جلا عن كل عين علة | كالشمس لا تغني الكواكب جملة |
في الفضل مغناها ولا تفصيلا | |
ذو العرش كلمه بها متكرما | بعلومه إذ لا مكان ولا زما |
عن وصفها ثغر المعبر ألجما | إذ لا العبارة تستقل لحمل ما |
راح النبي له هناك حمولا | |
وإذا المصور صاغ لب نبيّه | عنه الهوى ألوى أعنّة غيّه |
فثوى الهدى فيه وضاء بحيه | وإذا أراد الله حفظ وليه |
خرج الهوى عن قلبه معزولا |
ولما انتهى تخميس هذه الخريدة قال:
هذي بيوت كالبروج رسوخها | بنعوت ختم الرسل كان شموخها |
مذ طال بالوالي النصيح بذوخها | بعناية الباري أتى تاريخها |
قد تمّ تسميطي فعاد جميلا |
وأقام في بيروت مدة ثلاثة أشهر كان خلالها موضع تعظيم الكبراء والفضلاء، اختطفته أيدي الأدباء حتى صار أعز من العنقاء، فاحتفوا به واستمتعوا بروائع فنونه، فكان يختلس من الوقت بعض الفراغ للنظم، وقد خمّس قصيدة طويلة لشاعر العراق الأكبر المرحوم عبد الباقي الفاروقي، وسماها (التخميس العبهري على بائية عبد الباقي العمري المرسومة بالباقيات الصالحات)، أقتطف بعض أبياتها منها:
مذ شب زند الفكر بعد أن خبا | قمت لمدح آل طه معربا |
مسمطا أوصافهم فيما اجتبى | هذا الكتاب المنتقى والمجتبى |
في نعت آل البيت أصحاب العبا | |
يجلب للكونين أوفى عبرة | بشرح رزء نال خير عترة |
من قبل ما آوى إلى محبرة | بالقلم الأعلى بيمنى قدرة |
في لوح عز وبنور كتبا | |
روض معانيه غدا مؤرجا | مذ جدولت أسطره نهر الحجا |
به جبين الحسن إذ تبلجا | لاح به فوق العلا متوّجا |
مرصعاً مكللاً مذهبا | |
غنت على أغصائه حمائم | وفي معانيه انجلت غمائم |
لم أدر إذ شقت لها كمائم | نسائم هاتيك أم لطائم |
طيب شذاها ملأ المحصبا |
وشطر قصيدة ابن المقري التي اخترعها على أسلوب غريب ومنهج عجيب، وهي تقرأ عجزاً وطرداً، وشمالاً ويميناً، لا يعرف قدرها إلا أرباب الفصاحة على أوجه لا تحصى، وقد ذكرها الخزرجي في طبقاته وشرحها في مجلد لطيف، فأحب هذا الضرير الجبار تشطيرها على أسلوبه لتكثر بذلك أوجهها، ويعرف بذلك ابن بجدتها وأبو عذرتها:
ملك سما | ذو كمال زانه كرم |
بحر جرى | فيض كفيه على الأمم |
لما همى | بأياد جودها ديم |
أغنى الورى | من كريم الطبع والشيم |
به العنا | ورده تصفو مشاربه |
عذب حلا | وتروى منه كل ظمى |
لما جنا | حينما لانت جوانبه |
بث العلا | في يديه وابل النعم |
له نما | طال من في أنفه شمم |
إذا سـرى | جاوز العبوق بالهمم |
مجلى العمى | ليس تعلو مجده أمم |
كما ترى | فاق كل العرب والعجم |
زيارته إلى دمشق: وفي سنة 1324ﻫ ـ 1906م غادر الفقيد العبقري استانبول وزار الشام وتجول في البلاد السورية وعاد إلى دمشق، فتهاداه الأمراء والعظماء، وحضر حفلة ختان أولاد المرحوم عبد الرحمن باشا اليوسف، فقرأ الموالد النبوية بصوته الحسن، فمنحه مئة ليرة ذهبية، واجتمع لفيف من الشعراء ينشدون قصائدهم بمدح الباشا وتهنئته، وكان مسك الختام ما نظمه ذلك العبقري الضرير الذي كان فريد دهره في نظم تواريخ الحوادث، فإذا كان بين الشعراء هابوا جانبه، فهو لا يبارى في ارتجالاته ولا يجارى، وقد تضمنت قصائده وصف حفلات الختان، وهنأ مؤرخاً كل واحد من أولاده بقصائد طويلة، أذكر منها البيت الأول والبيت الأخير المتضمن تاريخ الختان:
فقال رحمه الله في السيد محمد سعيد اليوسف:
خليلي أدر لي كؤوس الطلا | وزمزم بما يطرب البلبلا |
إذا اليمن غنى لنا أرخوا | ختان محمد سعيد حلا |
سنة 1326ﻫ
وقال في السيد عمر اليوسف:
ظبي كحيل ذو حور | بدا فأخجل القمر |
سنة 1326ﻫ
وقال في السيد أحمد راتب:
دارت بنا الأكواب كالكواكب | وزفها الساقي لخير شارب |
شمس المعالي أنشدتنا أرخوا | هدى العلى نسبة أحمد راتب |
سنة 1366ﻫ
وقال في السيد حسن سامي:
طائر الإقبال بالأفراح بشر | حين غنى بلبل البشر وصفر |
طالع السعد لنا أرخه | حسن السامي من اللاش تطهر |
سنة 1326ﻫ
وهنأ عبد الرحمن باشا اليوسف رحمه الله بقصيدة أرخها بقوله :
ونغني بأطيب اللحن أرخ | مجد عبد الرحمن خير (لبالا) |
سنة 1326ﻫ
ومن مواهبه أنه كان يرتجل ألحانه في المناسبات الواقعية، فقد حضر العظماء والكبراء حفلة الختان التاريخية التي لم تشهد دمشق مثيلها إلا في أفراح الملوك، وطلبوا من النابغة الضرير الغناء، فعزف على القانون فتجاوز بعزفه الساحر حد الإبداع، ثم ترنم بصوته الشجي المتوج الرخيم فأنشد موشح ابن سهل الإسرائيلي، وهو:
يا ليالي الوصل في نادي الصفا | هل لك اليوم إلينا من رجوع |
فأجاد وأطرب وامتزج صوته بالألحان والعزف امتزاج القراح بالراح أو الأرج بالنسيم، فأسكرت نشوة ألحانه أهل الأماني، فكانوا بين طريح ومستهام.
سفره إلى مصر: وسافر المرحوم صاحب هذه الترجمة إلى مصر وأقام فيها بضعة أشهر، فالتف حوله أشهر العلماء والأدباء والفنانين، وجرت بينه وبينهم مساجلات مشهورة، وأخذ عنه القراء والفنانين أحكام التجويد وبعض النغمات التركية وأوزانها، وقد نوه عن فضله وعظمة فنه الموسيقار كامل الخلعي المصري بمؤلفه الشهير، ثم عاد إلى استانبول فاستقبله عشاق فنه وأدبه بشوق وهيام.
وكان رحمه الله بعد الانقلاب الحميدي سنة 1912م في عهد السلطان رشاد في استانبول.
مؤلفاته: لقد وهب الله هذا الضرير الجبار مواهب فذة، فأتى بمعجزات في النظم والفن والتأليف والتلحين، ولست أدري ما درجة نبوغه وعبقريته في نواح أخرى فيما لو كان بصيراً، فقد ألف كتاب (أبيض خواتم الحكم في التصوف)، وكتاب (نباتي)، وكتاب (الطراز المذهب في الأدب)، و(الأبكار الحسان)، و(التوجعالأكبر بحادثـة الأزهـر)، ورسالـة مطبوعـة بـ (تخميس لامية الإمام البوصيري الشهيرة)، وقام بجمع وتنقيح ديوان الشعر المسمى (الترياق الفاروقي)، وهو نظم أستاذه ومربيه المرحوم عبد الباقي الفاروقي الموصلي شاعر العراق الأكبر، وهو أكبر جهد قام به مؤلف ومدقق بالنسبة لهذا الضرير العاجز المتغلب بقوة جلده وصبره على الشدائد، وله تخاميس وتشاطير كثيرة.
وله مؤلفات عديدة استأثر بها بعض ذوي النفوذ الذين كانوا يوفدون نساخاً لتدوين ما ينطقه.
وكان المرحوم محمد باشا العظم والد دولة السيد خالد العظم وزيراً للأوقاف ورئيساً لمجلس النواب العثماني في العهد التركي الأخير في استانبول من عشاق هذا العبقري المتفنن، وبالرغم من كثرة مهامه الرسمية لا ينقطع عن الاجتماع به والتمتع بعلمه وفضله، وكتب مؤلفو الأتراك رسائل وافية عن مناقبه ومواهبه، وأبرزها رسالة المرحوم المؤرخ العلامة أحمد عزت باشا العمري العراقي عن هذا الضرير الجبار.
نثره: أما قوة بلاغته في الخطابة الارتجالية فكانت موضع العجب، فإذا ارتقى ذورة المنابر هـز أركانهـا بسـحر بلاغتـه، وهرع إلى اسـتماع أقواله الأكابر والأصاغر، فيسيل جامد دموعها ويهيج كامن ولوعها.
أوصافه: كان رحمه الله مدور الوجه، أشقر اللون في بشرة بيضاء، مرهف الملامح، عظيم الهيبة والوقار، بطيناً عظيم الجثة، مديد القامة، كريماً وهاباً، وفيًّا وتقيًّا، شافعي المذهب، وكان رئيساً للطريقة المولوية في الموصل، وقد أخذت صورته الأخيرة وهو في لباسها، وأخذ الطريقة الرفاعية والقادرية والنقشبندية عن مشايخها الذين كانوا يعتزون بأدبه وعلمه وفنه.
ورث السجايا الفاضلة عن أسرة الفاروقي الشهيرة في بلدة الموصل التي اعتنت بتربيته، فكان لها الفضل بإبراز مواهب هذا الضرير المارد الجبار إلى دنيا العبقرية، وحق للعراق خاصة والشرق عامة أن تزهو فخاراً بهذا النابغة الذي هو فريد دهره بنواحي عبقريته.
وفاته: وفي يوم الثلاثاء الثالث عشر من شهر جمادى الثاني 1341ﻫ الموافق 30 كانوان الثاني 1923م استأثرت المنون بروحه الطاهرة في بغداد، فخبأ أعظم بركان أتقدت نيران بنوغه فأضاء الشرق إلى يوم يبعثون، فكان نفحة الزمان وأعجوبة الدهر، ودفن في جامع الخفاقين في بغداد، واشترك أهلها بتوديع الراحل العظيم بمأتم عز نظيره، وأفاض الشعراء في رثائه وتعداد مواهبه ومآثره الخالدة، وألحد الثرى من كان فنه وصوته الرخيم وعبقريته الشامخة بلسماً للقلوب، وكانت مدة حياته سبعين سنه، (من سنة 1271ﻫ إلى سنة 1241ﻫ)، وارتفعت روح هذا القارئ العظيم والمادح للرسول الكريم ﷺ ليكون عندليب أرواح أهل السبطين في دار الخلود، رحمه الله وطيب ثراء.
* * *