جاري التحميل

عزت الجندي

الأعلام

عزت الجندي([1])

الشهيد الأول الدكتور عزت الجندي

إلمامة من صفحات المجد والتضحية المطوية

(1882 ـ 1914م)

هو السيد عزت بن المرحوم محمد بن سليمان الجندي العباسي، ولد بحمض سنة(1182) ميلادية، وعاش بكنف والده، وتلقى العلوم في المدارس الرسمية بحمص، ثم التحق بمعاهد دمشق التجهيزية، وبعدها انتسب إلى معهد الطب في الأستانة، وهنا نترك الحديث لصديقه الدكتور المرحوم توفيق الشيشكلي الحموي قال:

شعّتْ من جدران معهد الطب بارقة أمل تتصاعد من فؤاد شاب تحركت في عروقه دماء أجداده العباسيين، وثارت في نفسه تلك العزة المتوقدة في عهدي الرشيد والمأمون، وحنّ إلى ماضي أجداده الغابر، فتلفت يمنة ويسرة فلم يجد أمامه إلا بضعة من أبناء العشائر وأمراء العرب الذين جلبوا إلى الأستانة ليحصلوا العلوم ظاهراً وليكونوا رهائن عند سيد (يلدز) حقيقة، وهم من أولئك الغطاريف الذين يجب ألّا يناموا على ضيم، ولكن عوامل التشتت والجهل بعثت فيهم سنة من النوم فخدّرت أعصابهم فضلوا السبيل إلى حين، وقد كان وميض نار استعادة المجد المتخلل في أفئدتهم في حاجة إلى الإيقاظ، فاحتك بهم شابنا اللامع وحدثهم عن تاريخ الجدود وماضيهم الدارس وعزهم المفقود، وهيج فيهم عاطفة استعادة المجد والسؤدد، فلقيهم آذاناً صاغية، وعاهدهم على السير في هذا السبيل حتى النهاية، فعاهدوه وقطعوا شوطاً واسعاً في وضع الخطط وطراز تنفيذها في المستقبل، وحددوا الأمكنة التي اختارها للقيام بأعمالهم، ولم تكن إلا إحدى مناطق نفوذ بعض الأمراء في الجزيرة.

وتمّ إجماعهم على مغادرة العاصمة لولا أن أحست بهم عيون الجواسيس وحالت دون ذلك، وبعد تحقيق وأخذ ورد قضت السلطة بطرد هذا الشاب من معهد الطب لصغر سنه، وإقصائه عن الأستانة، وما كان بطلنا في هذه الرواية الخالدة إلا شهيد الأمة العربية المرحوم عزت الجندي الذي بقي بعيداً عن رفاقه تحفّ به عيون الجواسيس حتى أعلن الدستور العثماني وصدر العفو العام عنه وعن أمثاله.

جاء الشهيد إلى دمشق وأعاد انتسابه لمعهد الطب العثماني الذي كان أكثر أساتذته رفاقاً للمرحوم أيام دراسته في الأستانة، ورغم ميله الشديد لإنهاء دروسه وأخذ الشهادة تغلبت عاطفة الاشتغال بالسياسة على مقصده الأساسي، وكاد يفقد ما يأمله لولا نصائح أُسديت إليه من رفاقه الأساتذة، فترك قليلاً من وقته للدراسة، وبذل القسم الأعظم منه لما استهوى فؤاده، رفيقاً لنا في المدرسة وصديقاً مخلصاً يرعـى حرمـة الرفاقـة والصداقـة، لطيـف المعشر، كريم الطبع، ولا أزال احتفظ بذكرى قدّمها إلي وهي كتاب فرنسي بالجراحة الصغرى، خط اسمي عليه بيديه رحمه الله، وكثيراً ما كان يتحفنا بأحادثيه اللذيدة، ومنها حياته في القسطنطينية وما جرى له ولرفاقه في حديثه الذي قصصته عليك في صدر هذه الكلمة.

رحل إلى الأستانة وبقي فيها يرتقب الفرص حتى إعلان النفير العام، وبينما كنت في بعلبك رئيساً في خدمة الجيش العثماني عام 1914م مرّ المرحوم بالقطار الذي كان تحت إشرافي ومراقبتي في ذلك العهد، وكانت مقابلة جميلة بعد انقضاء أربعة أعوام ولم أره فيها، وكانت آخر العهد به، فتجاذبنا أطراف الحديث في مختلف الشؤون، وقد أراني وثيقة موقعة بإمضاء أنور باشا وكيل القائد العام ووزير الحربية يطلب فيها من جميع السلطات العسكرية والملكية إمداد الشهيد المرحوم بكل ما يطلب من معاونة، فقلت له: وإلى أين أنت ذاهب الآن؟ أجاب إلى الحجاز واليمن ونجد وإلى جميع الجزيرة العربية لأقوم بتهييج العرب واستفزاز حميتهم الدينية وتبليغهم أمر الخليفة بالجهاد، وقهقه كعادته، فابتسمت معه وقلت له: قل الحقيقة، أجابني: سأذهب إلى مصر، ومنها أخترق الجزيرة حيث أسعى لإنفاذ برنامجي الذي تعلمه، فالدولة العثمانية ستتمزق، وإذا لم نوجد لنا كياناً في الجزيرة يجرفنا تيار الاستعمار ونصبح أثراً بعد عين، وستسمع عني ما يثلج القلوب، ودّعني وذهب، ولم تمض مدة على مفارقتنا إلا وسمعت بطلب السفاح جمال باشا له، فأُخذ محفوظاً وغاب عن الأبصار، وشاعت بعد ذلك شائعات مختلفة لم نعلم الصحيح منها، والذي أجمع عليه التواتر، وهو أن الطاغية جمالاً قتله برصاصة من مسدسه في إحدى نزل (دامسكوس بالاس)، ودفن بأمره خلسة في محل مجهول، فذهب ضحية لشجاعته وجرأته ومغامراته وإقدامه.

وكتب عنه صاحب الدولة حقي بك العظم فقال:

أول عهد المرحوم الشهيد الدكتور عزت بك الجندي بالسياسة بمصر التي تعرفت به فيها، أي سنة (1911م)، ولكنه كان يشتغل بالسياسة من قبل وهو في الأستانة، وكان من أعضاء المنتدى الأدبي.

أهدافه: كانت أهدافه التي يرمي إليها تنقسم إلى قسمين: قسم ظاهري، وقسم سري، الظاهري هو الاستقلال الداخلي، أي اللامركزية لجميع الولايات العثمانية من تركية وعربية وألبانية وأرمينة، أما القسم السري فهو الوصول إلى الاستقلال العربي التام، جاعلاً اللامركزية سلماً يمر به إلى ما تصبو إليه نفسه، أي تأليف دولة عربية تجمع شتات الناطقين بالضاد تحت راية واحدة، وذلك عند انحلال الدولة العثمانية، وكان يعتقد أن هذه الدولة لابد وأن تنقرض، وقد تقوى معه هذا الاعتقاد بعد الحرب البلقانية حتى أصبح يقيناً، وسمعته مراراً يقول: إن الحصول على اللامركزية ضروري لنا جدًّا؛ لأنه إذا بقيت الدولة العثمانية في الوجود نكون نحن العرب حصلنا والحالة تلك على الاستقلال الإداري تحت الراية العثمانية، وإذا انقرضت نكون وضعنا بذلك أساس دولتنا العربية المستقلة.

ولما أعلنت الحرب الكونية وخاضت تركيا في معامعها كان أسفه عظيماً لعلمه أنها سوف تكون وسيلة لتقسيم الدولة العثمانية ـ ومنها الولايات العربية ـ بين دول الطرف الظافر، وكان يعتقد أن إنكلترا وحلفائها سيتغلبون على الألمان وحلفائهم حتماً.

مبدأ اتصاله الخديوي: كان مبدأ اتصاله بالخديوي بعد الحرب الطليانية الطرابلسية، وعلاقاته به كانت متينة جدًّا، وقد أرسله على رأس وفد إلى طرابلس الغرب ليتوسط مع صديقه السيد أحمد شريف السنوسي لوقف القتال لقاء مبلغ مليونين من الفرنكات، وذلك بناء على تدخل ملك إيطاليا الحالي مع الخديوي عباس حلمي باشا، ولما رأى الدكتور عزت بك أن بني قومه سيكونون مستعبدين، وأن تدخل الخديوي عباس ليس في مصلحة العرب؛ نصح صديقه السنوسي بضرورة الاستمرار على الحرب ريثما يهيئ له شروطاً مناسبة تضمن له استقلال مقاطعة (برقة) الداخلي وجعله أميراً عليها، مع دفع تعويضات (عما خربه الإيطاليون من الزوايا السنوسية) مبلغ خمسة ملايين فرنك على أن يشتري له سلاحاً ومعدات حربية، فارتاح السيد السنوسي إلى مقترحات الدكتور، فوضع شروطه على أساسها بخط يده وسلمها إلى رئيس الوفد الدكتور عزت بك الذي عاد مع رفاقه إلى القطر المصري بدون أن يطلعهم على شيء منها.

أما الوفد فكان مؤلفاً من السادة عزت بك الجندي رئيس، والأعضاء: عبد الحميد بك شديد مدير بنك دي روما بالإسكندرية، والأمير مصطفى الإدريسيابن عم السيد محمد علي الإدريسي أمير صنعاء اليمن، والسيد عبد العزيز أحد أشراف طرابلس الغرب، والسيد الطوخي أحد علماء الأزهر.

عاد الوفد وسلم كتاب السيد السنوسي إلى الخديوي الذي لما اطلع على شروط الصلح غضب كثيراً وقال للدكتور عزت بك: إن هذا الشيخ يريد إملاء إرادته على دولة معظمة، فلماذا تنصحوه؟!

إن هذا الشيخ لا يفقه من أمر السياسة شيئاً، فأنت الذي أمليت له هذه الشروط، فأجابه الدكتور: إن السيد السنوسي يقود مئة ألف مقاتل، وتلك القوة هي التي أملت هذه الشروط، وكان أحد أعضاء الوفد عبد الحميد بك شديد حفظاً لمركزه وإظهاراً لإخلاصه للحكومة الإيطالية قابل السفير الإيطالي بمصر، وأفهمه بخلوات الدكتور عزت الكثيرة مع السيد السنوسي مدة إقامتهم عنده، وأنه هو الذي حرض السنوسي على استمرار القتال، وواضع تلك الشروط، ولهذه الأسباب انقطعت علاقات الدكتور بالقصر الخديوي.

وبعد مدة استأنف الخديوي عمله بإرسال وفد إلى مقابلة السيد السنوسي برئاسة عبد الحميد بك شديد، ولما بلغ الدكتور عزت خبز سفر الوفد خشي العاقبة على صديقه السنوسي، فأرسل من مصر رجلاً عن طريق السلوم إلى طرابلس الغرب يحمل معه كتاباً للسيد السنوسي أبان فيه ضرورة الاستمرار على الحرب والتمسك في طلب الشروط السابقة، وعرفه بأن عبد الحميد شديد عامل إيطالي وغير مخلص للقضية العربية، ولما وصل الوفد إلى طرابلس الغرب رفض السيد السنوسي مقابلته، وفشلت جميع المساعي لحمل السيد السنوسي على الصلح.

أما صلات الدكتور الشهيد بالسيد الإدريسي فكانت قوية ترمي إلى مساندة السيد السنوسي في حربه مع الإيطاليين، وكان طبيبه الخاص يتردد إلى صنعاء كثيراً، وكان الإدريسي يعتمد عليه في شراء الأسلحة والعتاد الحربية من بلاد اليونان وخلافها، وقد طلب السيد الإدريسي مصاهرته فاعتذر الدكتور عن إجابة طلبه نظراً لصغر سن شقيقته إذ ذاك، هذا ما سمعته وما بلغني من صلاته بالخديوي وبإيطاليا، وكان كل ذلك شائعاً بين الناس.

رحلاته إلى الجزيرة: أعرف رحلاته إلى جزيرة العرب، ولكن لا أعرف أغراضه من الاتصال بالملوك والأمراء هناك.

الدكتور الشهيد والجمعية اللامركزية: كان عضواً عاملاً في لجنة جميعة اللامركزية الإدارية، وكان لهذه الجمعية لجنة تنفيذية سرية هي التي كانت تقوم بطبع المناشير الثورية وتوزيعها وترتيب إغلاق المدن في الولايات العربية، وإرسال تلغرافات الاحتجاجات إلى الباب العالي، وكان أعضاؤها أربعة من الرجال اللامركزيين، كان الشهيد رئيسهم، وقد كلف مرة من قبل هذه اللجنة بالاتصال بأقوى جمعية ثورية أرمنية بمصر أظنها جمعية (هنجاق) ففعل، وحضر اجتماعاً لها كبيراً، وخطب بالحاضرين، فكان وقعه فيهم عظيماً.

وعندما استعفيت من مفتشية الأوقاف في الأستانة وعدت إلى مصر في (1911م) وجدته هناك، وعلمت أن طلعت باشا أراد استجبلابه لخطيرة الاتحاديين، فعرض عليه السفر إلى باريس ليتخصص في إحدى شعب الطب على نفقة الحكومة، فرفض ذلك وجاء إلى مصر ليكون في مأمن من بطش الاتحاديين، وبعد برهة أعلنت إيطاليا الحرب على الحكومة العثمانية، فاشترك مع البرنس عمر طوسون باشا في تشكيل أول جميعة للهلال الأحمر بالقطر المصري، والشهيد أول من تطوع بالذهاب على رأس أول بعثة طبية للهلال الأحمر إلى طرابلس الغرب، وهناك بدأ يناوئ الاتحاديين أمثال أنور باشا ومصطفى كمال باشا (رئيس الجمهورية التركية الآن) مع صديقه القائد عزيز علي المصري إلى أن توفقوا لتعيين السيد شريف السنوسي للقيادة العامة، وبعد أن جلي الأتراك عن طرابلس الغرب عاد إلى مصر، وأنشأ بميدان العتبة الخضراء مستشفى وزاول أعماله فيه، وبالوقت ذاته ما انقطع عن الاشتغال بالسياسية لتحرير بلاده، وعادت صلاته بالأتراك على إثر قطع علاقاته بالخديوي، فسافر إلى الأستانة بدعوة من أنور باشا الذي طلب منه أن يرشح نفسه للنيابة عن حمص على أساس مبادئ الاتحاديين، وبالرغم عن توجيه الرتبة المتمايزة إليه فقد رفض الطلب، وقدم ترشيحه باسم المعارضة فلم ينجح.

عاد إلى سورية على آخر باخرة إيطالية، وعلى إثر وصوله دخلت تركيا الحرب العامة، ولما وصل حمص استداعاه جمال باشا فأتوا به مخفوراً إلى مركز القيادة بدمشق (أوتيل دامسكوس بالاس الآن)، وبمركز القيادة اغتالوه بأمر من جمال السفاح، هذا ما بلغنا نقلاً من الجنزال مسكويل القائد الإنكليزي العام بالقطر المصري، ولم يعلم حتى الآن مدفنه.

لقد قوبل أهله بتقدير الحكومة العربية بإدخال اسمه بلائحة الشهداء الأبرار، إذ منحت مرتبات شهرية لكل عائلته تقديراً لخدماتهم للقضية العربية.

وهذه أبيات قالها الشاعر الكبير بشارة الخوري بمناسبة عيد الشهداء:

كتلة من لهب

في سماء العرب

ولواء من هدى

وشعاع من نبي

يا شهيداً دمه

قال يا أرض اشربي

أنت إن لم ترتو

بدم الحر الأبي

ذل فيك العربي

واستبد الأجنبي

(عزت) حسب المنى

بسمة من يعرب

قل له إن جئته

(عزت) الأوطان بي

وقد وردتني قصائد رثائية كثيرة اكتفيت بنشر بعضها، وهذه خريدة جادت بها قريحة الشاعر العبقري الأستاذ الشيخ راغب العثماني برثائه، فقال:

في موكب المجد حامت حولك المقل

وفي البلاد قلوب فيك تحتفل

صوارم في يديك البيض لو لمعت

مادت بها الأرض واستلقى بها الجبل

ولو ضربت ببطن القاع لانصدعت

أركان شامخه واندكت الدول

والحزم ما لاح من عينيك بارقه

والجود ما صار من يمناك ينهمل

والبيد لو سئلت عن خير من عرفت

من الكماة إذا ما حتم الأجل

قالت مهند (حمص) صنو (خالدها)

من بايع الله صدقاً (عزة) البطل

جهدت للعرب تبني صرح مجدهم

والمجد أعظم ما سادت به الأول

ناموا وعينك مازالت مسهدة

ترعى مصالح شعب هزه الجزل

فكنت للعرب طوداً شامخاً أبدا

وللبلاد فتى أوقاته عمل

وللمريض أبا رفق ومرحمة

وللضعيف ملاذاً بالندى يصل

وهذه قصيدة رثائية بعنوان (الشهيد)، وقد تجلى فيها ما بيني وبين الشاعر العربي الملهـم الأسـتاذ أنور العطار من تجاوب روحي، فعبر عن أحاسيسي نحو شقيقي الشهيد، فقال:

يا شهيد الحق يا أعـ

ـبق أنفاس الجنان

يا شعاع الخلد لما

حاً على كر الزمان

دمك المسفوح نور

باعت فجر الأماني

أنت نبراسي مدى الدهـ

ـر ودرعي وسناني

أنت نورت سبيلي

أنت قومت لساني

أنت أنشأت اعتزامي

أنت شيدت كياني

أنت سلسلت أناشيـ

ـدي وأطلقت الأغاني

وأرى طيفك يهدي

خطواتي ويراني

فإذا نهجك نهجي

وإذا شأنك شأني

لم تزل ذكراك في نفـ

سي ولم تبرح جناني

خالد أنت على الدهـ

ـر وما أنت بفان

هدم الباغي صروح المـ

ـجد لكنك بان

وتناءت صور النا

س ولكنك دان

بك عزت يا نجي الـ

ـقلب داري والمغاني

ومشى السعد على أر

جائها طلق العنان

فتقبل يا شقيق الر

وح ما صاغ بياني

من رحيق الأدب البا

قي وعلوي الدنان

لك يهدى يا مثال الـ

ـحب يا رمز الحنان

*  *  *

أنت إعلاني وإسرا

ري ولفظي والمعاني

*  *  *

 



([1] (أ) (1/ 13 ـ 15)،و(2/ 7 ـ 8).

الأعلام