جاري التحميل

علي محمود طه

الأعلام

علي محمود طه([1])
(1902 ـ 1949م)

لقد توفي هذا الشاعر العبقري وهو في السابعة والأربعين من عمره، فيكون من مواليد 1902م على وجه التقدير، لقد تخرج من مدرسة الهندسة التطبيقية، وقضى أكثر حياته متنقلاً في الوظائف الحكومية، فكان مديراً لمكتب رئيس مجلس النواب، وفي سنة 1945م استقال من هذا المنصب، إذ آثر أن يغرّد طليقاً بعيداً عن وظائف الحكومة وقيودها، وظل كذلك حتى عين وكيلاً لدار الكتب المصرية.

أدبه: برز من بين صفوف الشباب، فكان شاعراً جهير الصوت، رصين الأداء، سجي النغم، تطلعت إليه العيون، وخفقت له القلوب، واشرأبت إليه الأعناق، ولم يخل من حسد الحاسدين، فحقد عليه فئة من الشباب وحفنة من الشيوخ، وكأن النبوغ في رأيهم لا يحسب بعدد المواهب والملكات، وإنما يحسب بعد السنين.

كان حلقة في سلسة تطور الشعر العربي الحديث، لوى شعره عن التقليد والترديد، وكان بيانه وأصالته يرتكزان على ثقافة واسعة متنوعة، قد اغترف من الآداب المختلفة واستوحى البيئات المتباينه، وأخرج فنًّا من الشعر سريًّا متناسق الألوان.

كان ذا شخصية واضحة جذابة، مرحاً طروباً، فراح يستشعر ما في الدنيا من جمال بحس الشاعر المرهف، يعبّ من مواردها ما يحيله إلى فن جميل، فلم تنغص حياته غير العلة التي عصفت بروحه وهو يغرد على أفنان هذه الحياة ليجعلها متاعاً وبهجة لمن يصغي إليه، فانطلق جواباً في الآفاق يستعرض آيات الله في جمال الطبيعة ومفاتنها، ويصور الحب والجمال، فتهفو النفوس إلى قوله، ويبعث الأنس ويملأ دنيا الناس بأشعاره، ويعطر الأرجاء بفنه وظرفه.

ولو وجد هذا الشاعر، شاعر الحب والجمال المرأة في إبان شبابه لسكن الجسم القلق، وخبت الجذوة المتأججة، وخفتت الصيحة الساخطة على مرارة الحياة، ولو حصل على الشهرة لاستقر القلب الحائر، واطمأن الفكر الشارد، وفترت الصرخة العاتبة على إدراك الناس، ولكنه حرم كلتا المتعتين، فعاش عزباً في دنياه... عزباً بالقلب والفكر والروح.

لقد كان شاعر الأداء النفسي، فأكثر شعره حول محور ذاته، شأن المنطوين على أنفسهم، وقد شغلته نفسه في الالتفات إلى ما حوله من شؤون المجتمع وأحداث الحياة، وأجبرته بيئته وطبيعته على أن ينظر في أمر هذه النفس لأنه فنان، لم يهيئ له مجتمعه غير القيود التي أدمت منه الجناح، واستنفذت جل وقته في تضميد تلك الجراح.

كانت حياته على لسانه سلسلة من الأحاديث، وكانت في شعره سلسلة من الاعترافات، واستمع إلى هذا الاعتراف في قصيدته (شرق وغرب) وهو شعر صادق قال:

إن أكن قد شربت نخب كثيرا

ت وأترعت بالمدامة كأسي

وتولعت بالحسان لأني

مغرم بالجمال من كل جنس

وتوحدت في الهوى ثم أشركـ

ـت على حالتي رجاء ويأس

وتبذلت في غرامي فلم أحـ

ـبس على لذة شياطين رجسي

فبروحي أعيش في عالم الفنْـ

ـنِ طليقاً والطهر تملأ حسي

تائهاً في بحاره لست أدري

لم أزج الشراع أو فيم أرسي

لي قلب كزهرة الحقل بيضا

ء نمتها السماء من كل قبس

هو قيثارتي عليها أغني

وعليها وحدي أغني لنفسي

لي إليها في خلوتي همسات

أنطقتها بكل رائع جرس

كم شفاه بهن من قبلاتي

وهج النار في عواصف خرس

ووساد جرت به عبراتي

ضحك يومي منه وإطراق أمسي

أيهذي الخدور! أنوارك الحمـ

ـراء كم أشغلت ليالي أنسي

أحرقتهن! آه لم يبق منهنْـ

ـنَ سوى ذلك الرماد برأسي

آثاره: أخرج عدة دواوين شعرية هي: 1 ـ الملاح التائه، 2 ـ ليالي الملاح التائه، 3 ـ أرواح وأشـباح، 4 ـ الشـوق العائد، 5 ـ زهر وجمر، 6 ـ شرق وغرب، وله: 7 ـ مسرحية شعرية، وهي أغنية الرياح الأربع، وهي لشاعر مصري قديم يرجع عهده إلى أربعة آلاف سنة، وقد نظمها باللغة العربية، فجعل منها آية فنية مشرقة بالبيان، يتجلى فيها الشعر والسحر والفن والجمال، 8 ـ (أوراح شاردة) وهو يحتوي على نثر وشعر.

وستظل آثاره باقية في سجل الخلود على كر الأحقاب والدهور.

مرضه ووفاته: كان يعاني من آلام مرض ضغظ الدم، خف عنه أولاً ثم انتكس فعادوت قلبه العلة، وكان يعالج أخيراً في المستشفى الإيطالي، وقد تمائل وتقدم نحو الشفاء، وفي يوم الخميس السابع عشر من شهر تشرين الثاني سنة 1949م وهو في موعد خروجه من المستشفى لبس ثيابه وتأهب لمغادرة المستشفى، وإذا هو يسقط صريعاً بين أيدي من أتوا لمرافقته إلى منزله، فنقل جثمانه بالسيارة من مصر، ودفن في المنصورة مسقط رأسه، وقد رثاه الدكتور المرحوم زكي مبارك الذي لم يرثه أحد من الشعراء غيره، فقال:

يا ماضياً لبلاد ليس يشهدها

من يرتئيها وجفن العين وسنان

جميع من يرتئيها كلهم نفر

حجوا إليها وهم بالموت عميان

إن الحياة وهذا الموت يطلبها

في شرعة الصدق تزوير وبهتان

قالوا سنلقى غداً ما سوف يفرحنا

في جنة عندها البواب (رضوان)

فيها الفواكه من تين من عنب

وفي جوانبها حور وولدان

هذا جميل، ولكني بلا أمل

ففي حياتي ضلالات وكفران

إن الذي أسكت الغريد أسكته

وفي مشيئته جور وطغيان

إني إلى النار ماض خالد أبداً

ففي مسالكها للشعر ميدان

قالوا سينصب في يوم الحساب لنا

عند المهيمن قسطاس وميزان

الموت نوم فلا صوت ولا خبر

خلو فؤادي فإن النوم سلطان

هذا (علي) مضى لم يبكه أحد

ولا أفاض عليه الحزن فنان

أوحى إلى الشعر ما أوحى ومن عجب

أن يصدر الشعر وحياً وهو شيطان

*  *  *

 



([1] (أ) (2/ 481 ـ 483).

الأعلام