عمر اليافي
عمر اليافي([1])
مآثر الشيخ عمر اليافي الخالدة في العلم والشعر والفن
رحم الله زماناً كان به الخلفاء وأكثر الوزراء والولاة والحكام يتهافتون عن عقيدة وإيمان للانتساب إلى مشايخ الطرق، ومن الثابت أن السلطان رشاد كان ينتسب إلى الطريقة المولوية، وكذلك أحمد جودت باشا والي سورية، وكان غيرهم مثلاً هذا قادري، وذلك رفاعي أو نقشبندي، لا يبغون سوى مرضاة الله وطاعته والدعوة إلى التآخي ومكارم الأخلاق، بعكس ما تطورت إليه الحالة في البلاد، فقد انتشرت الأحزاب وكثرت وتعددت الأسماء واختلفت الأهداف، وكل يدعي أنه الزعيم المنقذ المنتظر، وفشت الأنانية وحب الذات، وتنافرت القلوب حتى عميت، وساء المصير، وكادت نزعات وتوجيهات بعض هذه الأحزاب الهدامة تضر بصالح الوطن والأفراد.
أنا لا أبغي من هذه المقدمة الدعوة إلى الرجعية، ولا أطلب من دولة السيد حسني البرازي أن يكون مثلاً أحد الخلفاء في الطريقة الكيلانية، وأن يقيم الأذكار ويتلو الأوراد وفصل الهداية (ليس الهادي إلا هو)، أو أن يقوم غيره مثلاً بفصل المناجاة (يا متعالي ارحم حالي، يا متجلي ارحم ذلي)، إنما جاءت مقدمتي هذه عرضاً في حديث له علاقته بعظمة القطب الشيخ عمر اليافي شيخ الطريقة البكرية؛ لبيان الفارق بين أخلاقنا في الماضي والحاضر.
هذا الزاهد الذي صهر الخواص والعوام بتأثير مواعظه وإرشاده في بوتقة واحدة، فجعل الناس بسحر بيانه وفصاحته يتقبلون النصيحة بقلوب صافية خاشعة، ويعيشون في جو من الإخاء والصفاء والوئام بعيدين عن الغايات والأنانية والجشع، وشتان بين ماضينا وحاضرنا ومقاصدنا.
الشيخ عمر اليافي: ولد أبو الوفا قطب الدين الشيخ عمر اليافي في مدينةيافا سنة 1173ﻫ ـ 1754م، ورضع ثدي الكمال في مهد الأدب والفضائل، وتلقى العلم عن فحول الأعلام، حسيني النسب والحسب، ورحل إلى نابلس ومصر في سبيل طلب العلم، ثم قدم إلى دمشق سنة 1198ﻫ وهو في عنفوان شبابه، فأخذ عن جملة من شيوخها، ثم طاف البلاد الشامية والحجازية لنشر العلوم والإرشاد، وحج الأماكن المقدسة، فكان في كل بلد حل به كالثريا، يلتف الناس حوله ويلقى التكريم والإعجاب بعلمه وفضله.
تآليفه: هو العلامة الذي طاول الثريا علمه، ومن مؤلفاته رسالة في الفرق بين الواحد والأحد، ورسالة هداية أهل المحبة، ورسالة لباب الغنم ومنية المغرم في معنى الاسم الأعظم، ورسالة في الحض على بر الوالدين، ورسالة في تفسير بعض أشعار الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي التي تعتبر من الطلاسم، ورسالة في الطريقة النقشبندية، وتفسير الإحدى عشرة كلمة التي بنيت عليها هذه الطريقة، ورسالة في حكمة اجتماع الذاكرين وحركاتهم على الطريقة وحركاتهم الصوفية، ورسالة معنى التصوف والصوفي، ورسالة بديعة في حل البيت المشهور:
وما كنت أدري قبل عزة ما البكا | وما موجعات القلب حتى تولت |
ورسالة في دخول الحمام، ومنح العليم في بسم الله الرحمن الرحيم، ورسالة قطع النزاع وكشف القناع، ورسالة في اسم (علي)، وله مؤلفات في الفقه والتفسير والحديث والنحو.
إقامته بدمشق: وبعد طوافه البلاد الشامية والمصرية والحجازية حطت رحاله في دمشق مهبط العلم والعبقرية والفن، فأحبها واستوطنها لوفرة أدبائها وعلمائها الأعلام في ذلك العهد، واتخذ له في الجامع الأموي حجرة كبيرة تقع في المشهد الغربي تعرف حتى الآن بمشهد اليافي؛ لإعطاء الدورس وإقامة الأذكار وإفادة المريدين، ولم يطل العهد به حتى أصبح العالم الفرد بمآثره ونبوغه، وانقادت إليه الزعامة الدينية، فكان مطاعاً يرتجي أعاظم الرجال نوال رضاه والتبرك بلثم يديه.
صفاته: كان رحمه الله آية في الهيبة والجمال والوقار، ذا رفعة وجلالة وفصاحة ألانت له عصي الكلام، يتمنى جليسه أن لا يفارقه، بعيد الهمة، خالي الغرض، قوالاًبالحق، نطوقاً بالصدق، أماراً بالمعروف، نهاءً عن المنكر، اشتهر بالزهد والورع والسماحة والكرم اشتهار البدر في الأفق الصافي.
منزلته عند الملوك والعظماء والناس: كان مرعي الحرمة والجاه، نافذ الكلمة، فقد كتب إلى محمد علي باشا والي مصر في عهد الاحتلال المصري للبلاد السورية بإسناد إحدى الوظائف العلمية إلى عالم دمشق المرحوم الشيخ محمد العطار، فأجاب التماسه، وكتب إلى السلطان محمود خان مسترحماً تعيين مرتب ليستعين به على تأمين إعاشته ومريديه الملازمين له لإقامة الأذكار في زاوية دمشق، وتمليكه داراً، فصدرت الإرادة السنية بإجابة استرحامه.
هذا وإن داره لا تزال مسكونة من قبل ذريته، وهي تقع بالقرب من الجامع الأموي.
تواضعه: كان الفقيد رحمه الله مضرب المثل في التواضع، يستقبل الناس ومحياه كالزهر بشاشة وإيناساً، لين الجانب للجليل والحقير، وانظر إلى قوله مادحاً الشيخ عبد الغني النابلسي رحمه الله، يتجلى فيه تواضعه بأروع مظاهره:
سواي إذا كان عبد الغني | فإني عبد لعبد الغني |
معارفه سدرة المنتهى | ومنها ثمار المنى نجتني |
فهل يخاطب في عصرنا هذا مثلاً رئيس حزب لرئيس آخر بلغة التواضع والأدب كما خاطب اليافي النابلسي رحمها الله؟! وقد وهب المترجم قطعة من أرض بستان يملكه، وشاد عليها ضريح النابلسي مع الجامع الحالي.
شعره: هو العالم العلامة الذي خفقت رايات علمه في الآفاق، نظمه كالروض البديع، ونثره كالزهر اليانع في الربيع، امتطى متن البيان فكان حجة فيه.
ومن روائع شعره في الغزل قوله:
أفتاة قلبي رحمة بفتاك | كفيّ مهند لحظك الفتاك |
قد شبهوا بالبدر حسنك طلعة | حاشاك مما شبهوا حاشاك |
فالبدر ينقص في الكمال وأنت في | أوج الجمال على المدى مثواك |
وإذا رأيت وميض برق قلت من | ذكري لديك تحركت شفتاك |
ياطلعة الأفلاك هاحج البحر من | دمعي وسارت في الهوى أفلاكي |
جل الذي ولاك فينا عندما | أولاك حسناً عزّ عن إدراك |
فنه: قد فتن الفقيد رحمه الله الناس بعبقريته الفنية، ومازالت موشحاته منتشرة تنشد في الأوساط التي تدرك قيمتها، فيستهوي القلوب سماعها.
وهذه بعض موشحاته البديعة من نغمة الراست:
يا لطيف الشمائل | بك هاجت بلابلي |
في محياك شامة | حيّرت كل عاقل |
لو رأى منك لفتة | عابد فيك لافتتن |
هب لمضناك رشفة | منك تطفي غلائلي |
وموشح من نغمة الراست أيضاً:
أقبل إلينا صادقا | وبعهدنا كن واثقا |
نسقيك كأساً رائقا | صرفاً تصفّى من كدر |
سلمى السهارى تنجلي | في المشهد الأسنى العلي |
ولقد تحلت من حلي | عقد لآلٍ ودرر |
تلامذته: لقد درس في حلقته وتخرج عليه فطاحل العلماء، وفي طليعهم الشيخ أمين الجندي الشاعر الحمصي المشهور، فكان الفقيد رحمه الله يحبه ويرعاه ويتفرس فيه الفلاح والخير، ولما زار حمص وأعطاه العهد وكان ذلك في مقام الصحابي الجليل خالد بن الوليد رضي الله عنه؛ خرج أهل حمص وأريافها، فاستقبل وودع كالفاتحين، ومشى الناس في ركابه متبركين بطلعته النورانية.
مرضه: كان في حال مرضه لا يفتر عن العبادة وتلاوة الذكر الحكيم، وكان يشكو من الأطباء، ومما قاله عنهم:
ألا إن علم الطب قد غارماؤه | ولم يبق منه يا خليلي سوى الرسم |
تداو بذكر الله واترك جماعة | عقاقيرهم تدني إلى البؤس والسقم |
ولما اشتدت وطأة المرض عليه قال رحمه الله:
يا رب قد عجز الطبيب فآوني | بخفي لطفك واشفني يا شافي |
أنا من ضيوفك قد حسبت وإن من | شيم الكرام البر بالأضياف |
لا تحرمني نيل عفوك واسقني | من حضرة القدس الرحيق الصافي |
وفي غرة ذي الحجة سنة 1233ﻫ ـ 1814م آذنت شمسه بالغروب، وفاضت روحه الطاهرة فحلت في دار الخلود والسلام، ودفن بتربة الدحداح بدمشق، وشيعه الناس وهم في غمرة من الحزن الشديد يذرفون الدمع على شخصية نبيلة أتحفها الدهر للناس، فأفاد المجتمع بمآثره وعلمه ومواعظه وإرشاده وشعره وفنه، وأعقب ذرية صالحة، وهم:
الشيخ محمد الملقب بالزهري الذي قام مقام والده، سكن دمشق، وأحفاده انتشروا بحمص وطرابلس وعدن وجدة وطنطا بمصر، وتوفي سنة 1277 ﻫ ـ 1858م.
الشيخ أبو النصر، وقد خلف والده أيضاً في الإرشاد والسلوك هو الذي كان المرحوم الشاعر الفنان الشيخ مصطفى زين الدين الحمصي منشد ذكره، وطاف الناس يستقبلونه بكل عظمة وترحيب، وذريته انتشرت في بيروت وطرابلس وفلسطين، وتوفي في مصر سنة 1280 ﻫ ـ 1861م، وقبره معروف.
الشيخ محيي الدين الذي تولى إفتاء بيروت، ومن أحفاده رئيس الوزارة في لبنان السيد عبد الله بن عارف بن عبد الغني بن محيي الدين اليافي، وتوفي في بيروت سنة 1304ﻫ ـ 1885م.
وقد رثاه الشعراء بالمراثي الرنانة، وكانت مرثية الشاعر المشهور المرحوم أمين الجندي لأستاذه الأعظم من أبلغ المراثي المؤثرة، نقتطف منها هذه الأبيات:
قسي المنايا ما لأسهمها رد | فما حيلتي والصبر قد دكه البعد |
ومنها:
فيا عين لا تبقي من الدمع طارفا | ولا تالداً أبكي وإن مسك الجهد |
وفيه لمن عزى يقال لك البقا | قضى العارف اليافي والجوهر الفرد |
ويا نفس لا تبغي الإقامة بعدما | ترحل عن أوج العلا العلم الفرد |
فيا بحر فضل كيف وارتك حفرة | ويا بدر هدى كيف غيّبك اللحد |
مدى الدهر ما الجندي صاح من الأسى | قسي المنايا ما لأسهمها رد |
* * *