عمر يحيى الفرجي
عمر يحيى الفرجي([1])
(1902م)
وجه أنيس لطيف إذا نظرت إليه تبدت لك آيات المواهب كامنة في مقلتيه ولسانه وقلبه، في تواضعه رمز عصاميته، وفي صمته البليغ رمز عبقريته، وهو رجل بكل ما تفسر المواهب الفذة في الرجال، ذلك هو الشاعر الملهم المطبوع الأستاذ عمر بن يحيى بن خالد الفرجي، وأسرته حموية عريقة في القدم.
مولده ونشأته:ولد في مدينة حماة 1902م، ونشأ يتيماً في بيئة فاضلة أساسها الحفاظ على الدين والأخلاق، تلقى دراسته في مدارس حماة، ثم أكملها في الكلية الصلاحية بالقدس، فكان خلال مراحل دراسته موضع إعجاب إخوانه وأساتذته بذكائه وألمعيته ومتانة أخلاقه وتربيته وجده ورصانته.
في البحرين: ومشى عليه الدهر فقضى أن لا يستقر في وطنه ويرتاح في بيته وعزلته التي هي أشهى شيء إلى قلبه، فانتدب للتدريس في البحرين، فكان يبث في نفوس طلابه روح الوطنية والتمسك بأهداب القومية العربية، فما استقر بضعة أشهر حتى أنذرته السلطة الإنكليزية بمغادرة البحرين في برهة (24) ساعة إثر وشاية ودس، فاضطر للرجوع على سورية، ولله دره حين يقول:
وما ضر ليث الغاب مثواه نازحا | فكل مكان فيه ينزل غاب |
في خدمة العلم: عاد الشاعر إلى حماة فعين معلماً بإحدى مدارس الحكومة، وتدرج في الترفيع، فكان أستاذاً في دار العلم والتربية، فمديراً، وأظهر كفاءة وإخلاصاً في إدارته الحكيمة، وقدرت وزارة المعارف جهوده واقتداره وسعة اطلاعه في آداب اللغة العربية، فعينته أستاذاً لها في تجهيز أنطاكية، وفيها أخرج ديوانه (البراعم)، وطبعه عام 1936م، ثم نقل إلى حلب فبقي فيها من سنة 1936م إلى 1950م يدرس الأدب العربي في مدارسها الثانوية، وبعدئذ عهد إليه بمديرية معارف حماة.
لقد ندر بين الشعراء من اجتمعت به مواهب فذة، فهذه الشاعر الأديب يعتبر متفنناً بالعلوم الرياضية، مما يدل على أن الله وهبه ذكاء لماحاً نادراً بين البشر.
أدبه: لقد استمد شاعريته من رياض العاصي الخلابة وخمائله الوارفة ونواعيره الخالدة، فكان عندليب العاصي الذي سحر الألباب بشدوه البليغ، وقد أثرت في روحه ثقافة أديب العروبة الأكبر المرحوم إسعاف النشاشيبي عندما كان أستاذه في الكلية الصلاحية بالقدس، وقل من يوازيه فيها، وتأثر بشعراء العهد العباسي، فحفظ أشعارهم، وقد كان للفترة القاسية التي مرت عليه في نشأته أبلغ الأثر في نفسيته، فقد لقي من دهره كل غدر، فخابت آمال وأمانيه في الحياة، وصهرت آلامه المتفجرة شاعريته، فجادت قريحته بروائع القريض.
واقتبس من آداب اللغات الفرنسية والتركية والفارسية التي يجيدها، وترجم منها إلى العربية ببلاغة تفوق الأصل، وهذه قصيدته الأمل الضائع التي ترجمها عن الفرنسية تدل على سمو خياله وبيانه، نقتطف منها بعض أبياتها:
شدا على غصنه بين الخميل دجى | متيم الورد شدو العاشق السكر |
معللاً بالمنى نفساً لو اتصلت | بساهر الليل لم يجهد من السهر |
غداً يحل زمان الورد والطرب | غداً أشم شذا محبوبي العطر |
غداً تمتع روحي باللقاء وهل | غير اللقاء لإطفاء الجوى وطري |
كم للمنى من أويقات ينال بها | أربابها العرش هزائين بالخطر |
لقد اتسم شعره بعناصر الحزن والأسى واليأس، وكان الشعر سلوه في حياته، وقد و صف نفسه فقال:
قضى ساهداً تستنجد الدمع عينه | وترعى عيون النجم والقوم نوّم |
تجشم تحصيل السعادة قلبه | وههيات ضل الحظ من يتجشم |
يرى الشعر روحاً في الحياة وراحة | فيبدي به بعض الذي كان يكتم |
وأجاد في قصائده القومية والتاريخية، أما في الرثاء الذي يعبر عن صادق شعوره فقد تسامى به إلى الجوزاء، وقد رثا الوجيه المرحوم نورس الكيلاني بموشح فريد جاء آيات محكمات في روعة وصفه وسحر بيانه، ومطلعه:
حكم كالبرق لمحاً ومضا | مثلما تسرع أيام النعيم |
آه من وقعك يا كف القضا | والقلب بعد من يهوى كليم |
أذرفي يا سحب دمع الجزع | وأطيلي منك للخطب الأبين |
وانتحب يا بلبل الروض معي | فلقد ودع وضاح الجبين |
نغم متعت منه مسمعي | ثم بدلت به طول الحنين |
وحسام كان فينا منتضى | ندفع الخطب به إما ادلهم |
ففقدنا حينما عنا مضى | ورمانا بالأسى الفرد العلم |
ولهذا الشاعر ولع بكشف أسرار اللغة العربية والتنقيب عن مشتقاتها ومصادرها، امتاز شعره بقوة قوافيه وندرة الحشو، وفيه بعض المعاني الغريبة ساقته إليها المقتضيات الأدبية، لقد أحب الجمال المطلق، وافتتن باللحاظ التركية التي أكثر من النوادر في وصفها في شعره، فبوركت أرض حماة التي أنجبت أكرم شاعر ينساب على لسانه سحر الحديث والقول.
* * *