جاري التحميل

فتح الله الصقال

الأعلام

فتح الله الصقال([1])

معالي الأستاذ فتح الله الصقال

(1893م)

أوجد العلماء فن التاريخ لتخليد نوابغ الرجال، وللتاريخ فضل عظيم على البشرية، فهو مرآة تعكس الحسنات والسيئات، والميزان القسطاس للأعمال، يروي للخلف أعمال السلف، ويظهر مواهبهم ومآثرهم، وعلى المؤرخ أن يكون أميناً في نشر تراجمهم، صادقاً بما روى وما كتب، وتحليل أسرار الشخصيات البارزة يتطلب التعرف إلى دقائق حياتهم وبيئتهم الوراثية، وهذا أمر ليس بالسهل تحقيقه، فإن ذلك يحتاج إلى جهوده في دراسات عميقة، سيما عناصر البشر ممن سجل التاريخ وقائع حياتهم فيها الشهم والنبيل، وفيها الوغد والذئب الكاسر.

وإني إذ أنشر ترجمة أحد أعلام الأمة العربية الذي يبلغ قمة المجد في جليل آثاره ومآثره، وهو معالي الأستاذ الأجل فتح الله الصقال، لأرجو أن أكون أصبت الهدف والحقيقة في تحليل شخصيته الفذة، لا يتوهمن القارئ أني أبالغ في وصف مواهبه، فقد امتاز بسجايا لا تعز مفرداتها في بعض الرجال، ولكنها تعز مجتمعة في رجل مثله.

مولده ونشأته: هو ابن المرحوم ميخائيل الصقال، ولد في حلب عام 1893م، وتربى في مهد العز والنعمة، وتلقى دراسته في مدرسة الحقوق الفرنسية بمصر، ثم التحق بكلية (اكس) بفرنسا، ونال الشهادة العليا بتفوق، فكانت ثقافته عميقة الجذور.

مراحل حياته: عاد إلى مصر وتعاطى المحاماة أمام المحاكم المختلطة، وبقي مدة ثلاث سنوات يحرر القسم القضائي في جريدة الأهرام العربية اليومية، وفي جريدة (البورص اجبسيان) التي كانت تصدر باللغة الفرنسية، ونالت أبحاثه الإعجاب فذاع صيته واشتهر فضله.

مواهبه: لست أحسبني قادراً على وصف مواهبه ومآثره، وكل ما فيه عزة لا تدرك، فمعاليه نابغة في التشريع القضائي، ومن أبلغ الخطباء، انقادت لقريحته المتقدة جوامع الكلم، وكأني به يلتقط الجواهر من بحر وينظمها نثراً نصيداً هو أنفس من قلائد الدر، فهو يجيد اللغات العربية والفرنسية والإنكليزية الإيطالية، ويعتبر من أنبغ المحامين العرب، وفارس عربي من فرسان الزمن.

وطنيته: إن مواقفه الوطنية الشهيرة حافلة بجلائل الأعمال، ومازال الناس يتحدثون بها وتضرب بها الأمثال، وأثبت أنه شريف في مواهبه فريد في مزاياه، فقد وقف أمام المجلس الحربي الفرنسي يرافع ببلاغة فرنسية فذة عن المغفور له الزعيم إبراهيم هنانو، وأقنع المحكمة أن هنانو ليس بمجرم، ولكنه سياسي حر ثار لقضية بلاده، وكافح في سبيل استقلال أمته، وأنه لجدير بفرنسا وهي التي قوضت أركان الباستيل وألقت على الناس أبلغ دروس الحرية والعدالة والمساواة أن تقدر لهذا الزعيم جهاده، وأن تعلن براءته وتعيد إليه حريته.

وقد أدهش القضاة الفرنسيين بقوة دفاعه، وآثار ببيانه الساحر إعجابهم، فأعلنوا براءة الزعيم بأكثرية الأصوات، ومنذ ذلك الحين توثقت عرى المحبة المتبادلة بين الزعيم والأستاذ الصقال، وأطلق عليه لقب (محامي هنانو)، وكان يتردد عليه ويستشيره في الشؤون الخطيرة.

تعصبه لقوميته: وشاء القدر أن يلقي الدهر على كاهله عبئاًقوميًّا في موقف عصيب رهيب تجلى فيه تعصبه لقوميته العربية بشكل يدعو إلى المباهاة والاعتزاز بوطنيته المثلى، فقد دعي إلى حفلة نادي الاتحاد الفرنسي التي أقيمت في الثلث الأخير من شهر أيار سنة 1929م عندما كان الفرنسيون في ذورة مجدهم وأوج عزهم وسيطرتهم، وصدف أن مست رجل شاب سوري راق كرسي الكولونيل الفرنسي (هولتز قائد موقع حلب يومئذ)، فقال له بصلف وكبرياء: (انتبه أيها السوري القذر)، فسمع الأستاذ الصقال الأجل ذلك، فانتفض انتفاضة الأسد الهصور وانقض على قائد الموقع وأجابه بلجهة فرنسية قوية بليغة: (إنما القذر أنت أيها الضابط، لأنك لم ترع حق الضيافة والوفاء، ولم تحترم حرمة قوم تعيش أنت وأمثالك من خيرات بلادهم)، ولو لم يعتذر الكولونيل هولتز عن هفوته لتأزم الموقف وساء المصير، فليس الأستاذ الصقال ممن يسكت عن إهانة موجهة إلى وطنه وقوميته مهما أوتي خصمه من قوة وسيطرة.

وقد شاهد الفرنسيون من قوة بأسه ما كسر شكيمتهم، وإني لأجزم بالقول بأنه لو كان غير الصقال الليث لما استطاع أن يجابه الفرنسيين في مثل هذا الموقف الخطر في فترة لعبت الخمرة برؤوسهم.

هذه أمثولة صغيرة من نواحي وطنيته الصادقة الكثيرة نضالها الشموخ والشمم.

مآثره الإنسانية: من الناس من تقف همومهم عند حب الظهور، فيتلاشون كالخيال، ومنهم تسمو بهم أنفسهم لأعمال جليلة لا يبتغون منها إلاوجه الله الذي خلقهم لحمل أعباء خالدة، إن مآثر الأستاذ الصقال أجل من أن تعد وتحصى، ولا يتسع المجال لبيان شواهدها، فمعاني النبل لمّاحة بين جبينه وانبلاج ثغره، وهو في مآثره الإنسانية أمة واحدة، ولقد أسبغ عليه الدهر مآثر الخلود، فصهرته المكارم ونبالة القصد فجعلته حصناً منيعاً يلتجئ إليه من قسى عليهم الدهر بالمرض والألم والفقر واليتم ليداوي به آلامهم، ويخفف عنهم شقاء الحياة، وإن بلاغة الشعور والعواطف الصادقة أصدق من لغة المعاني والبيان، وإن التاريخ ليعبر عما يختلج في قلوب هؤلاء التعساء الفياضة بعرفان الجميل.

جميعة الكلمة: لقد تسلم في عام 1929م مقاليد جمعية الكلمة، وأوصلها إلى ما كانت تنشده من استقرار وازدهار، ووهبها في أجمل بقعة من بقاع السبيل قطعة أرض مساحتها نحو خمسة آلاف متر مربع تقدر قيمتها بخمسة عشر ألف ليرة عثمانية ذهباً، أي ما يعادل (000،350) ليرة سورية، وعلى هذه القطعة شيد دار العجائز التابعة لمشاريع الكلمة الخيرية، ومدّها بمبلغ وافر من ماله.

مستشفى الكلمة: وفي عام 1944م بدأ بتشيد مستشفى الكلمة على قطعة أرض واسعة تبرع بنصف قيمتها، كما تبرع بمبالغ أخرى وافرة، ومنذ عشرين سنة ونيف وهو متسلم رئاسة مشاريع الكلمة، ودائب على إدارتها ورعايتها بما فطر عليه من عطف وأريحية عزّ نظيرهما، وفي أركان هذا المستشفى بشر تعبر دموعهم عن معاني مبراته وحنانه، وفي 10 تشرين الأول 1946م انتخب بإجماع آراء وجوه الشهباء وكبار القضاة والموظفين رئيساً لجمعية الهلال الأحمر السوري بحلب، وجدد انتخابه مرتين، ثم استقال من هذه الجمعية، فأجمعت كلمة أعضاء إدارتها على انتخابه رئيساً فخريًّا لها، ثم انتخب رئيساً لنادي الروتاري بحلب، ورشح لمنصب حاكم المنطقة (83) من مؤسسة الروتاري، فأبى رغم إلحاح كبار أعضاء إدارة النادي المذكور.

مجلة الكلمة: وفي عام 1929م أصدر مجلة (الكلمة) الزاهرة، وراح يفتتح أعدادها بمقالات اجتماعية رائعة دلت على سمو مكانته في الإنشاء والأدب، وقد أوجدت لمشاريع الكلمة جيشاً لجباً من المحسنين والنصراء والمؤيدين في الوطن والمهجر، وكان أمين سره وأقرب الناس مودة إليه الشاعر العبقري الأستاذ عبد الله يوركي حلاق صاحب مجلة الضاد الغراء، فكان موضع ثقته وإعجابه لما اتصف به من وفاء وإخلاص.

مؤلفاته: لم يقف عند هذا الحد من الجهاد الوطني والإنساني والأدبي، بل عمد إلى التصنيف والتأليف، فطبع الكتب التالية: (قضايا وقف العثمانية)، و(تقرير جمعية الهلال الأحمر السوري بحلب)، وتقرير عن (أعماله في وزارة الأشغال العامة والمواصلات)، و(من ذكريات حكومة الزعيم حسني الزعيم)، و(وخطرات ونظرات)، وبين يديه كتاب مخطوط يؤلفه وهو (من ذكرياتي في المحاماة)، وقد اجتمع في سطورها آيات محكمات من قوة البيان والأدب.

وفي الوزارة: وفي مساء السبت 16 نيسان 1949م عين وزيراً للأشغال العامة والمواصلات في حكومة حسني الزعيم، ثم عين وزيراً للأشغال العامة في الوزارة الثانية التي تشكلت في 26 حزيران من السنة نفسها، فاستطاع أن ينتج في خلال أربعة أشهر فقط أعمالاً جليلة دوّنها في تقرير مطبوع يشير إلى نشاطه وإخلاصه النادر المثال.

مكارمه: هو المحسان العظيم الذي يتهادى في برجه العاجي، وفي نفسه أروع معاني الحياة مما يتحدث الخطباء البلغاء عن مآثره الإنسانية ومبراته التي يذكرها المجتمع، وقد جنى من المحاماة ثروة طائلة، وقبض في دعوى واحدة هي دعوى غزالة الذائعة الصيت مبلغاً قدره ثمانية آلاف ليرة عثمانية ذهباً تعادل (208) آلاف ليرة سورية، وغيرها كثير، فأنفقها في سبيل البر والإحسان، وبنى مجده التليد، ودستوره في الحياة: نحن خلقنا للمكارم.

*  *  *

 



([1] (أ) (2/ 21 ـ 23).

الأعلام