فخري البارودي
فخري البارودي([1])
الأستاذ فخري البارودي باعث النهضة الفنية السورية
انحدر من أصلاب كريمة، تصبو في روحه النبيلة أماني الحياة الحرة، في محياه جلال نوراني وهيبة، وفي عينيه بريق سوي يتقد كالكوكب الدري، فإذا خاض ميدان السياسة فهو الفارس المغوار، سد على محدثيه المنافذ فاستسلموا لعقيدته، وإن بحث في الأدب والتاريخ رأيته كالبحر الزاخر، كأن مجموعة من الشعراء قد تقمصوا في روحه ولسانه، وإذا تطرق لفلسفة الدين ظننت نفسك مع الصحابة والتابعين، وإذا سعدت بمعشره الأنيس شاهدت ملكاً بصورة إنسان، وسمعت من أفانين رواياته السحر الحلال، وخلت نفسك بين ندماء وسمار أعلام، إذا صفا أو غضب نثر من فمه الجميل النكات كما ينثر الورد الجني كمائمه.
ذلك هو الوجيه العربي السيد فخري بن المرحوم محمود بن محمد الحسن البارودي.
أصله ونشأته: بزغ نجم المترجم الأصيل بدمشق سنة 1304ﻫ ـ 1885م، وأصل أسرته من سلالة ظاهر العمر الزيداني، وتكنى جده الحسن بـ (البارودي)، وهو لا ينظر إلى هذه الناحية إلا بعين الفيلسوف الزاهد الذي تمثل بقول صديقه الشاعر:
قالوا ابن من أنت يا هذا فقلت لهم | إني امرؤ جده الأعلى أبو البشر |
قالوا فهل نال مجداً قلت واعجبي | أتسألوني بمجد ليس من ثمري |
نشأ في مهد العزل والفضائل، وتربى في دار البارودي الواقعة في حي القنوات بدمشق، وهي من الدور الشامية التاريخية التي شكل فيها جلالة المرحوم الملك فيصل الأول أول حكومة عربية لما حل ضيفاً عند والد المترجم.
تلقى مبادئ علومه في الكتاتيب الأهلية، وتنقل بين المدارس الأهلية، ثم دخل مدرسة عنبر الإعدادية الملكية في دمشق، واستمر فيها سبع سنوات ونال شهادتها.
خدمته العسكرية: ولما وقعت الحرب العالمية الأولى كان في التاسع والعشرين من عمره، فدخل المدرسة الحربية لضباط الاحتياط، وتخرج منها برتبة ملازم ثان، وبعدها ترفع إلى ملازم أول، ثم وقع أسيراً في موقعة بئر السبع في الجيش العربي، والتحق وهو في الأسر بالجيش العربي الشمالي الذي قام بالثورة العربية تحت قيادة فيصل الأول بن الحسين رحمهما الله، وكان قائداً للموقع الذي يحل فيه، ومدير شرطة الجيش الشمالي، وبعد أن دخل الجيش العربي دمشق تطوع على رأس فرقة من الدومانيين، وبقى في قلعة دمشق محافظاً على المدينة إلى أن شكلت الحكومة الجيش، ولما توج الملك فيصل عين مرافقاً لجلالته، وبقي كذلك إلى ما قبل دخول الفرنسيين دمشق بأسبوع حيث عهد إليه بمديرية شرطة دمشق.
في شرقي الأردن: ولما وقع الاحتلال الفرنسي اختفى مدة، ثم التحق بشرق الأردن، وله فيها ذكريات مريرة، وقد احتفى الملك عبد الله به وجرت بينهما مساجلات شعرية بديعة، ولما عاد إلى سورية اعتزل السياسة واشتغل بزراعته.
في الثورة السورية: ولما اندلعت نيران الثورة السورية في سنة 1925م اتهم بمساعدة الثوار، فسيق إلى قلعة دمشق، وسجن فيها بضعة شهور، وجرت محاكمته، والقصد منها إعدامه تنفيذاً لمؤامرة حاكها أخصامه، ثم برئ وأطلق سراحه.
في المجلس النيابي: وفي سنة 1928م رشح نفسه في انتخابات المجلس التأسيسي، وانتخب نائباً عن دمشق، وأعيد انتخابه بعدها أربع مرات في أربع مجالس نيابية، وأخيراً سئم السياسة فاعتزلها بعد أن نالت البلاد استقلالها.
وطنيته المثلى: هو أحد فرسان الرعيل الوطني الذي ناضل وكافح المستعمرين في سبيل حرية وطنه، كان ذا تأثير ونفوذ شعبي، إذا خطب سحر السامعين وألهب حماسهم، وقد نال من التشريد في العهد الفرنسي الشيء الكثير، فما زاده إلا مضاء وعزيمة وثباتاً في عقيدته، فنفي إلى القامشلي في الجزيرة، وكان شوكة دامية في قلوب المستعمرين يخشون بأسه ويراقبون حركاته وسكناته.
رحلاته: قام بسياحات كثيرة في أكثر البلدان العربية والعواصم الأوربية والولايات المتحدة، وزار بلاد فارس، وألقى محاضرتين في المجتمع العلمي عن مشاهداته فيها، وحج بيت الله.
شعره: وهب الله هذا الأريحي الأجل سليقة نظم الشعر والزجل وقوة الخطابة الشعبية، وله أسلوبه الشيق الخاص المعروف به، ومن شعره في البديع في وصف آلة العود:
يا عود أنت وحق الله معجزة | آياتها الغر لا تحتاج برهانا |
ففي حياتك كم ظللت من أمل | وبعد موتك ثم أحييت إنسانا |
وكم شدت فوقك الأطيار من نغم | في الروض يا عود لما كنت ريانا |
والآن يشدو عليك الناس في طرب | وقد يبست وكم رددت ألحانا |
وفي رياضك كم عصفورة رقصت | إن نسمة الصبح هزت منك أغصانا |
واليوم يا عود كم أرقصت غانية | لولاك ما حركت في الرقص أردانا |
ومن أزجاله التي نظمها للغناء (تفاح الزبداني):
يا تفاح الزبداني خدك أحمر | حلو ريان وزاهي طعمك سكر |
وغير الشكل والطعمة نفحك عنبر | من الجنة جابوا طعمك يا زبداني |
موشحاته: هو مرهف الإحساس في الناحية الفنية، انقادت لوحي إلهامه أرواح الصبابة والخلان، وله موشحات كثيرة بديعة ترنم بها بلابل الشام، ومن نظمه موشح لحنه الأستاذ سعيد فرحات من نغمة العجم، وزنه مربع:
وغزال كلما ألقاه يزوي مقليته | قاطباً عن غير قصد أو بعمد حاجبيه |
وإذا سلمت ثارت حمرة في وجنتيه | لست أدري أي ذنب كان لي يوماً لديه |
ما عليه لو حباني قبلة ماذا عليه | بين موتي وحياتي لفظة من شفتيه |
وموشح من نغمة الحجاز كاركردي، وزنه مخمس، وهو من ألحان المرحوم عمر البطش:
يمر عجباً ويمضي | ولا يؤدي السلام |
أليس هذا عجيبا | أليس هذا حرام |
والمأثور عن مذهبه أنه فارس في الليل ناسك في النهار.
هوايته: لقد عشق الفن الموسيقي والأغاني القديمة وهو في مهده، وكان المرحوم والده من عشاق الفن، وداره مرتع الأدباء والفنانين، وكذلك كانت ومازالت مهبط الوحي الفني في عهد ولده الأجل.
آثاره: يقتني هذا الأجل أنفس مكتبة عربية، وقام بمؤازرة بعض الأساتذة بوضع السلم العربي وأنصافه وأرباعه، والحقيقة التي لا مراء فيها أن الأستاذ البارودي هو الوطنية والمجد الذي لا يثلم، فلم يدع مندوحة فخر إلا حازها، وكفاه نبلاً وفخراً أن مشروعه الفني الجليل نزعة عبقرية ترمي إلى الحفاظ على الفن وتخليد أعلامه.
حياته السياسية والاقتصادية: أول برلمان سوري حقيقي كان المترجم حركته الدائمة، فهو من واضعي الدستور، ومؤسسي الحياة النيابية على شكل ديمقراطي يرضاه ويقدسه، ويعرف المترجم بأنه من أغنياء هذه المدينة، وأنه بذل قسماً عظيماً من أمواله في سبيل ترقية صناعتها وإنتاجها، وألف لهذه المشاريع الهيئات والشركات والجمعيات، واشترك فيها فعلاً كمشروعي الإسمنت والكونسروة، وما استكبر مع زعامته أن يكون بائعاً في سوق علي باشا يمثل معملاً للألبان والزبدة والجبنة على الطراز الحديث، أو كمدير مزرعة تربى فيها الدواجن.
وبالجملة فهو فنان في كل أنواع الفنون، وأديب عبقري وسياسيفذ لو ساعدته الظروف.
* * *