فدوى طوقان
فدوى طوقان([1])
شاعرة فلسطين الفذة الآنسة فدوى طوقان
(1919م)
أصلها ونشأتها: هي الآنسة فدوى بنت المرحوم عبد الفتاح طوقان، وشقيقة الفقيد الشاعر الوطني النابغة المرحوم إبراهيم طوقان، ولدت في مدينة نابلس بين عامي 1919 ـ 1920م في فصل الشتاء، ولم تهتم والدتها لضبط تاريخ ولادتها في الساعة واليوم والشهر، لأن ترتيبها كان السابع بين خمسة بنين وخمس بنات لنفس الأب والأم.
تلقت دراستها في نابلس، ولم تتح لها الظروف إتمام تعليمها الجامعي في الخارج، فأكبت تسدّ هذا النقص بالدراسة الشخصية، وكان شقيقها الشاعر إبراهيم رحمه الله يتعهدها بعنايته بالإضافة إلى دروس خاصة في اللغة الإنكليزية التي ماانفكت تطالع آثارها بجد واستمرار.
نشأت هذه الدرة المكنونة في مهد الفقه والفضيلة، ثم تطورت الحياة الاجتماعية فانطلقت بحياتها الأدبية مع شقيقها إبراهيم، فاشتهرت في العالم العربي اشتهار البدر في أفق السماء.
فإذا استعرضنا التاريخ العربي وجدنا الدهر قد أنجب النذر اليسير من الشاعرات العربيات اللواتي فجع بعضهن بفقد عزيز، فتفجّرت ينابيع شاعريتهن،وخلّفن تراثاً خالداً للأدب العربي.
شعرها: لقد تأثرت بالقرآن العظيم وبشعر المتنبي وبأخيها المرحوم إبراهيم، فكانت لهذه العناصر أعظم التوجيه في حياتها الأدبية، وقد برزت شاعريتها الفذة بعد رزئها الجلل بفقد أخيها، فامتازت بأسلوبها المتين الوحيد بين الشاعرات في الشعر العربي، وهي شديدة الإحساس، ولها انطلاقات مع أسرار الطبيعة والوجود، وقصائدها في هذا الموضوع من أبدع ما يكون.
فاستمع إلى قصيدتها العامرة (من وراء الجدران)، ففيها روائع البيان والمعاني:
بَنَتْهُ يد الظلم سجناً رهيبا | لوأد البريئات أمثاليه |
وكرّت دهور عليه ومازا | ل كاللعنة الباقيه |
* * *
وقفتُ بجدرانه العابسات | وقد عفّرت بتراب القرون |
وصحت بها: يا بنات الظلام | ويا بدعة الظلم والظالمين |
* * *
لُعنتِ: احجبي نور حريتي | وسدي عليّ رحاب الفضاء |
ولكن قلبي المغرد لن | تطفئي فيه روح الغناء |
* * *
فقلبي يد الله صاغته لحنا | تدفق من عمق نبع الحياه |
ورغم شموخك يا مجرمات | يرن على كل أفق صداه |
* * *
لعنت اخنقي كل حلم | ينضر قلبي عطراً ونور |
فأحلام قلبي لن تنتهي | ولو حجبته زوايا القبور |
* * *
وإني وإن أوثقتني لديك | بألف وثاق أكف الغباء |
فلي من خيالي وفني ودنياي | ألف جناح وألف سماء |
* * *
ألا كم براعم قبلي نمتها | لديك هنا لعنات القدر |
ذوت تحت أصفادها وانحنت | على ذاتها أملاً منتحر |
* * *
كما انحطم الناي واللحن فيه | حبيس فما رف يوماً بفم |
كذلك كانت تموت وفيها | نشيد الحياة حبيس النغم |
* * *
وكانت تموت وفي قلبها | خيال الغدير وصوت الخرير |
وأنت هنا كالألى شيدوك | أنانية مات فيك الشعور |
* * *
لُعنت، سواي أمامك تعنو | وتخرسها غصبات الطغاه |
ولكن مثلي ستبقى برغمك | بنت الطبيعة، بنت الحياه |
* * *
أغني ولو سحقتني القيود | أغاريد نفسي وأشواقها |
تبارك لحني أمي الحياة | فلحني من عمق أعماقها |
وهذه قصيدة بعنوان (مع لاجئة في العيد) تفتت الأكباد في معناها ومعزاها، قالت:
أختاه، هذا العيد رفْـ | فَ سناه في روح الوجود |
وأشاع في قلب الحيا | ة بشاشة الفجر السعيد |
وأراك ما بين الخيا | م قبعت تمثالاً شقيا |
متهالكاً يطوي ورا | ء عموده ألماً عتيا |
يرنو إلى اللا شيءمنـ | ـسرحاً مع الأفق البعيد |
* * *
أختاه مالك إن نظر | ت إلى جموع العابرين |
ولمحت أسراب الصبا | يا من بنات المترفين |
* * *
من كل راقصة الخطى | كادت بنشوتها تطير |
العيد يضحك في محيْـ | ـيَاها ويلتمع السرور |
أطرقت واجمة كأنْـ | ـنَك صورة الألم الدفين |
* * *
أختاه، أي الذكريا | ت طغت عليك بفيضها |
حتى طفا منها سحا | ب مظلم في مقلتيك |
هل ذكرتك بما مضى وبما لديك؟
| |
يهمي دموعاً أومضت | وترجرجت في وجنتيك |
يا للدموع البيض!ما | ذا خلف رعشة ومضها؟ |
* * *
أترى ذكرت مباهج الـ | أعياد في (يافا) الجميلة؟ |
أهفت بقلبك ذكريا | ت العيد أيام الطفولة |
إذ أنت كالحسون تنـ | ـطلقين في زهو غرير |
والعقدة الحمراء قد | رفّت على الرأس الصغير |
والشعر منسدل على الـ | ـكتفين محلول الجديله |
* * *
إذ أنت تنطلقين بيـ | ـن ملاعب البلد الحبيب |
تتراكضين مع اللدا | ت بموكب فرح طروب |
الرثاء البليغ: لقد بكت شاعر فلسطين شقيقها الشاعر العبقري المرحوم إبراهيم طوقان، كما بكت الخنساء وخولة بنت الأزور قبلها وأدمتا القلوب برثاء أخويهما (مضر وضرار)، وقد فاقتهما وجادت قريحتها بأروع فيضٍ من قوافي الشعر في التفجع والبكاء والرثاء، وقد أراد الله بها خيراً فغمر قلبها الكليم بالصبر والسلوان لتغدق على المجتمع الأدبي من آيات قريضها شتى الأنواع كروضٍ يانع ضم أفضل الأزاهير الفواحة.
ومن قصائدها البديعة قصيدة بعنوان (عبّ النوى):
قضيت؟ إلى أين؟ هلا تعود إليّ، إلى روحي اللائب
حنانك، ضقت وضاقت حياتي بهذا الصدى المحرق اللاهب
بأشواقي العانيات تزلزل صدري، في عنفها الصاخب
حنانيك، قلبي يذوب وراءك، أوّاه من قلبي الذائب
تلفت، وراع بقاياه تذوي وتفنى مع الأمل الغارب
* * *
مضيت؟ وكيف؟ ألا رجعة | ترد إلى القلب دنيا رؤاه |
لقد أقفر الكون في ناظري | وغشى الظلام مجالي ضياه |
وكيف أحس جمال الوجود | ووجهك عني توارى سناه |
فما أقبح العيش يا موحشي | ويا ما أشد سواد الحياه |
وأنت بعيد بعيد هنا | ك وقلبيوحيد يعاني أساه |
* * *
مضيت، فيالحنيني إليك | وواهاً لأمسي القريب البعيد |
زمان أمر بدرب الكروم | وللدرب نفح جنان الخلود |
ويشرد طرفي ويطوي المدى | ولقياك غاية طرفي الشرود |
وفي القلب نارٌ جموح الوقود | ينادي بها الشوق: يا نار زيدي |
وطرفي قرير بذاك الشرود | وقلبي سعيد بذاك الوقود |
* * *
ويفجأني وقع خطو بعيد | ورائي، أصغي إليه طويلا |
ويهتف قلبي: هذي خطاه | أرى في صداها عليه دليلا |
خطى العنفوان، خطى الكبرياء | تنم عليه عظيماً نبيلا |
وتختطف الروح غيبوبة | وقد رحت تدنو قليلاً قليلا |
وأغرق في حلم ساحر | أحال حياتي فنًّا جميلا |
ومنها:
وتنهب عيناك وجهي وقد | عرا مهجتي منهما ما عرا |
فيمحى بعيني كل الوجود | ويمحي بعيني كل الورى |
وما لفتة النسر يا فتنتي | تطلع من عاليات الذرى |
وسلّط لحظاً على إلفه | عنيف التوقد مستكبرا |
بأروع منك وعيناك فيّ | أوار تلظى وسحر سرى |
مؤلفاتها: وتعهدت لجنة النشر للجامعيين بمصر فأخرجت لها في عام 1952م مجموعة شعرية عنوانها «وحدي مع الأيام»، وقد أزمعت الآنسة الفاضلة على طبع ما نظمته بعد إخراج هذا الديوان بعنوان «لست وحدي».
وفـي عـام 1946م أخرجت دراسـة عجلى عـن حيـاة شـقيقها إبراهيـم ـ رحمه الله ـ وشعره.
رحلاتها: وفي عام 1951م زارت سوريا ولبنان ومصر، فاحتفت بها الأوساط الأدبية وكرمت نبوغها وعبقريتها، وفي نيسان سنة 1954م قامت برحلة أخرى إلى مصر، فكانت موضع الحفاوة والإعجاب والتقدير.
ومن الغرابة ألا تقف عبقرية شاعرة فلسطين عند غاية وتصرح بأنها غير راضية عما أنتجته، ولعمري من اطلع على ديوانها «وحدي مع الأيام» يرى نفسه كأنه بين تلال من الأحجار الكريمة، فيها أنفس الدرر والماس والياقوت واللؤلؤ والمرجان، فيحار القارئ أيها يختار، وما زالت قريحتها تجود بروائع القريض.
* * *