كميل شمبير
كميل شمبير([1])
الموسيقار المتفنن المبدع المرحوم كميل شمبير
أصله ونشأته: ولد كميل بن ميخائيل شمبير في مدينة حلب في اليوم الثامن من شهر آذار سنة ألف وثمان مئة واثنين وتسعين ميلادية، وقد أهلته مواهبه الفطرية للنبوغ، فأصبح ذا ثقافة موسيقية عالية، وملحناً موهوباً، وأستاذاً بارعاً في تدريس البيانو في المدرسة الشيبانية بحلب.
ويعتبر الفقيد من أبرز مؤسسي النهضة الموسيقية العربية، ومن أقدر الموسيقيين براعة في علم النغمة ومعرفة الأوضاع الموسيقية وكتابتها، ويحق للشرق أن يفتخر بعبقريته، فهو كوكب لامع في فنه وعزفه الرائع، وغرة في جبين الدهر.
لقد كان الفقيد ينتقل بين الأقطار العربية كالبلبل الغريد من دوح إلى دوح، وكان رئيساً لفرقة المرحوم نجيب الريحاني التمثيلية، ثم رئيساً أيضاً لفرقة المرحوم أمين عطا الله التمثيلية في أزمنة متفاوتة، ولحن لها أكثر مقاطع رواياتهما التي كان لها أبلغ الأثر في الحياة الاجتماعية.
وكان رحمه الله يعزف القطع الغربية بدرجة الإبداع، وله الفضل في رفع شأن الفن ووطنه أمام الموسيقيين الأجانب الذين يقدرون مواهبه حق قدرها.
مواهبه الفنية: كان الفقيد إذا أراد عزف نعمة شرقية تحتاج إلى الأبعاد الصوتية الشرقية التي لا توجد في البيانو؛ عمد إلى مفتاح الطبقة (أعني الدوزان) الذي كان يحمله في جيبه وأصلح النغمة وعزفها، فهو فريد في أسلوبه الرائق، يتصرف في قواعد علم التصويت ورصد النغمات لدرجة بلغ بها حد الإعجاز، وكانت أكثر جولاته الفنية حول الأنغام التي لا يستطيع أن يجول بها أمثاله من الفنانين كالنكريز والزنجران والبسته نكار والحجاز كاركردي والعجم، ونسج على خطة لم يأت بمثلها من تقدم من الفنانين السابقين.
وكان رحمه الله يجيد العزف على البيستون، وهي آلة ثابتة لا يمكن تحويل الأصوات منها، ويضع عليها كمامة أي (سوردين)، فيخرج الصوت منها شجيًّا فاتناً بشكل تهواه النفوس، وملمًّا في العزف على الكمان والعود أيضاً.
وكان إذا حل في بلد من الأقطار العربية احتفى المعجبون بفنه وكرموه، وإذا لاح تطاولت الأعناق لرؤيته، وإذا مشى شيعته العيون، وإذا أزمع النوى استوحشت القلوب لفراقه، وإذا تحدث كان كلامه كالياسمين المعطر بربا الزهر، وإن الحفلات التي كانت تقام خاصة في النادي الكاثوليكي وغيره بحلب تكريماً لفنه لا تزال تذكر بين الناس، وتعتبر من أروع الحفلات والليالي الزاهرة.
لقد كان الفقيد يتقن اللغة الإفرنسية كالإفرنسيين، ويجيد التكلم باللغتين الإنكليزية والإيطالية، وكان نديماً أنيساً خفيف الروح، حلو المعشر، سريع النكتة، كريماً أبي النفس، يهوى الجمال وشمَّ عبير الورود والرياحيين، ولقد سجل الفنان شمبير بعض الأسطوانات من تقاسيم وسماعيات وبشارف في شركتي بيضافون وأوديون، ولم يبق منها سوى أسطوانة واحدة في الوجه الأول منها تقاسيم (بمب) على البيانو، وفي الوجه الثاني مع البيستون والكمان والعود، وإن أسطواناته التي سجلها أصبحت من التحف النادرة الخالدة.
تآليفه وألحانه: لقد نجح رحمه الله في تلحين الروايات من نوع الأوبريت، ومما عرف من تأليفه روايات (توسكا)، الغريب البائس، حلب على المسرح، عقبال عندك، شهر العسل، النونو، المجرم، ساعة الحظ، يا ما لوّع، غني وفقير، ليالي الأنس.
وله تقاسيم مطبوعة في كراسينلأجل البيانو: الأول حجاز، والثاني نهاوند.
ولكنه في أواخر عهده بعد أن اختمر وبلغ الذّروة العليا بالفن لم يعد صوته يساعده على أداء الأنغام كما يريد، ومن المؤسف أن لا يجد هذا الفنان الألمعي بين المطربين المشهورين من يقدر على إخراج ألحانه إخراجاً صحيحاً، وهذا كان من أسباب عدم ذيوع ألحانه، ولو أن الأقدار فسحت في حياته لكان لتلاحينه أثرها وشأنها الرائع في صفحات الخلود.
وكان الفقيد صديقاً حميماً للشاعر والكاتب المرحوم أنطوان شعراوي صاحب جريدة سوريا الشمالية، وكان الشعراوي قد شعر بدنو أجله فودع صديقه الفقيد شمبير بصورة أهداها إليه موشحة ببيتين من الشعر الجميل، وهما:
أيها الراحل قلبي قد نوى | منذ ألزمت النوى أن يتبعك |
فتذكر أينما كنت فتى | أرسل الروح مع الجسم معك |
وفاته: وفي اليوم التاسع من شهر تشرين الثاني سنة 1934م هوى هذا النجم الساطع من برجه الفني ملبياً نداء ربه، وقد توفي بدمشق، ونقل جثمانه إلى حلب فدفن فيها وهو في عنفوان رجولته، وقد رثاه الشاعر السيد عمر أبو ريشة الذي كانت تشجيه فنون الفقد وتؤثر فتنتها على مشاعره بقصيدة تعتبر من غرر الشعر، نقتطف منها هذه الأبيات:
نام عن كأسه وعن أحبابه | قبل أن ينقضي نهار شبابه |
نام عن سكرة الحياة وقد جـفْـ | ـفَ شراب السلوان من أكوابه |
يا بنات الغروب قد نفض الليـ | ـل على الكون حالكات نقابه |
احملي الراحل الغريب وسيري | بالزغاريد سلوة لاغترابه |
وادخلي هيكل الفنون وأهديـ | ـه سراجاً يضيء في محرابه |
مل دنياه بعدما سئم السيـ | ـر عليها وضاق في بلوائه |
مورد الفن مظلم لم يصوب | فوقه الشرق مشعلاً من ضيائه |
سار فيه... وظلمة اليأس تطفي | تحت أنفاسها شموع رجائه |
ليت شعري وقد توارى وشيكا | أطروب أم بائس في بعاده |
إنما لم تزل رفاق لياليه | كراماً على عهوده وداده |
كلما مر ذكره قلبوا الكأس | على الأرض حسرة لافتقاده |
لست أنسى الناقوس لما نعاه | والمصلى يموج في أحباره |
والمناديل في أكف الغواني | تشرب الدمع مع مقر انفجاره |
وحدوه بكل لحن شجي | سرقته الآذان من أسراره |
تغمده الله برحمته.
p p p