ماري جبران
ماري جبران([1])
شحرورة الشرق الفنانة الساحرة السيدة ماري جبران
ونشأتها: ولدت السيدة ماري جبران بنت المرحوم يوسف جبور في بيروت (1911م)، وأصل أسرة جبور من لبنان، استوطنت دمشق أيام الحرب العالمية الأولى، وكانت لها خالة ممثلة في فرقة الشيخ سلامة حجازي تدعى (ماري جبران)، فحملت صاحبة هذه الترجمة اسمها.
وشاءت الأقدار أن تحرم الطفلة من حنان أبيها بعد أن فقدت الأم معيلها إلى الأبد، وتحملت أعباء الحياة في ظروف قاسية وهي امرأة لا حول لها ولا سند، وكتبت الخالة الفنانة ـ وكانت تعمل في مسارح القدس وجمعت ثروة مادية طائلة ـ تستدعي شقيقتها وابننتها إلى فلسطين، وكانت في الثامنة من عمرها لما سافرت إلى القدس وسكنت مع الفنانات بنات أيديمن فلسطين، والتحقت بمدرسة البنات، وعاشت في بيئة فنية بحتة، وبدت مواهب الطفلة تتقد كالكوكب الدري في الظلمات وتجلت نعمة ذكائها الفطري وقد تخطت العاشرة من عمرها يساعدها على الاكتساب الفني، فكانت تغني بصوتها الصداح وترقص برشاقة نادرة وتضرب في الصنوج بإيقاع يلفت الأنظار، وتعلمت العزف على آلة العود فبرعت وتفوقت، وسموها (ماري الصغيرة) بالنسبة لخالتها (ماري جبران الكبيرة).
ومن طرائف مراحل طفولة هذه الفنانة أنها تنام على المسرح، فتأخذها والدتهـا لغرفتهـا وتسـتحضرها لما يحين دور عملها، وكانـت تجمع (البالصة) أو ما يسمونه بإكراميات الفنانات، وينظرن زميلاتها إليها بعين الغيرة والحسد لانتزاعهاإعجاب السامعين، وكانت والدتها بضيق وفاقة، فلقيت من شقيقتها أندل معاملة قاسية، وتخلت الخالة عن ابنة شقيقتها التي اعتزت بها وحملت اسمها، وقابلتها بشح وفتور بعد أن تراءى لها شبح زوال عهدها الفني، وما تنتظره الفتاة من مستقبل فني باهر، وأبى الدهر الذي أمعن بقسوته على الفنانة الصغيرة بعد أن فقدت والدها وأصبحت في عوز شديد إلا أن ينعم عليها بموهبة صوتها فتمت المعجزة، ومشت الأيام سراعاً، وتحسنت حالتها المادية، ورأت أن تفارق خالتها التي حملت اسمها، وليتها ما حملته بعداً عن جحيم كيدها وحسدها.
جولاتها: وتجولت بين يافا وحيفا وشرقي الأردن، وشاركت الممثل حسين البربري المصري، وعملت بفرقته التمثيلية وكانت في الثالثة عشرة من عمرها، وعادت لأول مرة إلى دمشق بعد غياب دام تسع سنين، واشتغلت في مسرح قصر البللور بدمشق، فكان يغص بعشاق الفن، ولمع نجمها الفني فاستقلت بالعمل لوحدها، اشتغلت في مقهى بسمار وكان يعج بالمعجبين بفنها، وسافرت إلى حلب وأقامت مدة سنة ولقيت من إكرام أهلها والاحتفاء بها الشيء الكثير، وعادت إلى دمشق وكان أجرها يبلغ الستين ليرة ذهبية في الشهر.
سفرها إلى مصر: وأسعدها الحظ فأتاح لها فرصة ذهبية بدلت مجرى حياتها الفني، فقد حضرت الفنانة المشهورة بديعة مصابني إلى دمشق، فافتتنت بصوتها الشجي الرخيم فأخذتها إلى مصر، وهناك تعلمت القراءة والكتابة العربية والفرنسية، واشتغلت كفنانة في مسرحها، وكانت قد بلغت الثامنة عشرة من عمرها، وغدتفي عز صباها وأوج مجدها الفني، وتعرفت في مصر على أكابر القوم وأعيان البلاد، وافتتنوا بروعة صوتها فسموها (ماري الجميلة)، وانتشرت صورتها في أنحاء الأقطار العربية فاشتهر أمرها وطار صيتها.
دراستها الفنية: وفي بيئة فنية قوية تلقت عن الموسيقار المرحوم داود حسني الأدوار المشهورة، وعن الفنان زكريا أحمد القصائد والمنولوجات، وافترقت عن مسرح بديعة مصابني، واشتغلت لوحدها مدة سبع سنوات، وسكنت بأحسن بيت واقترنت حياتها بعيش رغيد تنتقل بين ضواحي النيل بسيارة أنيقة.
عودتها إلى دمشق: ولأسباب تتعلق بمزاجها الصحي ومناخ مصر الحار عادت إلى دمشق واشتغلت بمقهى العباسية بأجرة (150) ليرة ذهبية في الشهر، واستمرت تتقاضاه مدة عشر سنين، ثم تدنى الأجر بالنسبة لسقوط العملة الذهبية.
فنونها: لم تكن هذه الفنانة الكبيرة ملحنة، بل اختصت بالغناء من النوع الذي لا يستطيع لغيرها من الفنانات ـ إلا ماندر، كأم كلثوم وملك وفتحية أحمد والنادر لا حكم له ـ مجاراتها بعظمة صوتها وروعة فنونها وسحر إلقائها، ولها تسجيلات كثيرة من الأدوار والقصائد والمنولوجات، وهي تستعذب من الغناء القديم الأدوار المشهورة (دع العذول ده من فكرك)، (في البعد ياما كنت أنوح)، (يا ما أنت وحشني)، ولها شغف بسماع ألحان الموسيقار عبد الوهاب، وقد شهد لها بأنها الفنانة السورية الوحيدة التي بلغت قمة المجد الفني، وهي تستعذب ألحان وأصوات مطربي سوريا وهم صابر الصفح ورفيق شكري ونجيب السراج، وتغني أقوى ألحانهم، ولها ولع خاص بالاستماع إلى ألحان بتهوفن وتوسكانيني وموزار وباخ من فناني الغرب المشهورين.
ومن أبرز مواهبها الفنية أنها تستطيع بصوتها السحري المرسل بدون تكلف إنشاد الليالي بجولات تصويرية رائعة، ويهزها الطرب فتمتزج روحها الفنية بأرواح عشاق فنونها فتهيم في سماء الخيال.
لقد امتلكت ثروات فنية ومادية كبرى، وانقادت لها نواص الفن والغناء، وأبدعت في الطرب واقترنت وأنجبت ولداً.
* * *