محسن الأمين
محسن الأمين([1])
نابغة عصره الإمام المجتهد المرحوم محسن الأمين
شهرة طبقت الآفاق، واسم عطر يدوي في كل مكان، كنت أتتبع أعماله وأخباره فأشعربالسعادة تغمرني لما أسمع بذكره، إن الزعامة الحقيقية تتطلب التضحية وإنكار الذات والسعي إلى المصلحة العامة، والتاريخ خير غربال للعظماء، فهو يفصل بين العظيم والمتعاظم، ويميز بين الكبير والمتكبر، وما أكثر الذين ماتوا فماتت معهم أعمالهم لأنها كانت تقوم على الجشع والأنانية وخدمة النفس.
لقد طلب مني أن أكتب عن إمام مجتهد أتى بغرائب الإعجاز في بدائع العلم والتأليف والفن، إمام ابتهجت به وجوه المعالي، وتبسمت له ثغور المكارم، فاعتكفت وبدأت أفكر في الموضوع، فقد طرحني هذا الطلب في لجة اليأس، فالوصول إلى هذه البغية ليس بالأمر السهل المنال، فإذا سألتني أن أغوص بوصف مناقبه ومآثره فقد كلفتني شططاً، ذلك هو موضع الإعجاز في مواهب إمام انتشرت شموس أفضاله وعلمه في كل ناد، ووقف بجانبي طفلي الوحيد يقاطع هواجس أفكاري، وجاشت بخاطري عوامل يعلم الله مدى شعوري بها عبرت عما يكنه قلبي في هذا الموقف بالنسبة لولدي عمر.
أحببت من أضحى عليًّا كاسمه | وطفقت أنشد والنشيد يلذّ لي |
أنا خادم السبطين واسمي في الورى | عمر ولكني أميل إلى علي |
واستعنت بالله القدير أن يسهل لي الخروج من مأزق حرج، فحبي لآل البيت وشعوري بالتمني أن أكون كلبهم باسطاً ذراعيه بالوصيد في أعتابهم المقدسة، قد أطلق عنان قريحتي، فجلت في حديثه بعون الله وإن لم أكن من فرسانه، وانتزعت من صميم الحي الواقع حيثيات من سيرة هذا الإمام العظيم وتاريخ حياته الحافل بمختلف أنواع النشاط، وعذري أن البحر الخضم الكبير يقبل فيض النهر والغدير.
مولده وأصله ونشأته: هو الإمام المرحوم محسن الأمين بن المرحوم عبد الكريم الحسيني العاملي، ولد بقرية شقرا التابعة لناحية هونين من أعمال مرجعيون، وموقعها بين تبنين وهونين، وهي من قرى جبال بني عاملة المعروفة الآن بجبل عامل سنة 1282ﻫ ـ 1863م، وكثيرون من العلماء والشعراء والنوابغ ولدوابالقرى قديماً وحديثاً، وقلّ منهم من ولد بمدينة، ينحدر الفقيد العظيم من أصلاب طاهرة، فيمت بنسبة إلى الإمام زيد الشهيد بن الإمام زين العابدين علي بن الإمام الحسين السبط الشهيد. وقد اشتهرت نسبة أجداده إلى قشاقش دون أن يعرف سبب هذه التسمية، ولما بلغ السبع سنوات من عمره رحمه الله تجلت آيات ذكائه اللماح وعبقريته الفطرية الكامنة، فتعلم القرآن الكريم والخط، واعتنى والده بتثقيفه وتهذيبه، وتفرغ لطلب العلوم، وقرأ قواعد اللغة العربية والمنطق والمعاني والبيان والفقه في مدارس جبل عامل على أعلامها الفضلاء بإتقان وتدقيق، وألّف وهو فتى في حلقات الدراسة رسالة في النحو، ومنظومة في الصرف، وعلق حواشي على المطول، وعلى معالم الأصول، ومنظومة في علاقات المجاز، واختار بفراسته من أقرانه في الدراسة أبرزهم اجتهاداً، وأفضلهم إخلاصاً.
هجرته إلى النجف الأشرف: وتنطلق أفكاره محاولة أن تستشف حجب الغيب فيعود إلى نجواه وشغفه بالهجرة إلى النجف الأشرف التي كانت ولم تزل محط رحال طلاب الإمامية وعلمائها من جميع الأقطار لمتابعة دراسته، فتحول دون بغيته موانع قاهرة، فجاشت عواطفه الفياضة الذاخرة بالشوق والحنين بخريدة من عيون الشعر النوراني الخالد، منها قوله:
ذكرتكم والعيس تهوى وبيننا | من الأرض مرماة يضل بها الوهم |
ففاضت على النحر الدموع سوافحا | وقد حل بالقلب الكآبة والهم |
وأنكر أصحابي حنيني إليكم | وليس بما بين الضلوع لهم علم |
ولو علموا مافي الفؤاد من الجوى | لما راعهم من مقلتي الأدمع السجم |
ثم شاءت عناية الله أن يكون خليفة أسلافه فضلاً وعلماً ونبلاً، فزال المانع وسافر في أواخر شهر رمضان سنة 1308ﻫ 1889م إلى بغداد، وتشرف بزيارة قبور الأئمة في كربلاء والكاظمية وسر من رأى، ونظم قصائد بليغة كثيرة بمدح النبي وآل بيته من هذا النوع.
فما السحر إلا ما حواه بيانه | وما الدر إلا ما حوته رسائله |
ثم توجه إلى النجف الأشرف، فانكب على المطالعة والمراجعة والدراسة والإفادة والتصنيف والتأليف مدة عشر سنين وستة أشهر ونصف شهر، وهو يقطف من نوارها ويستضيء بأنوارها.
صبره واحتسابه: وتعرض لنوب الزمان ومحنها شأن ما يلقاه العظماء في مراحل حياتهم، فكان صابراً، تلقى أحداثها بثغر باسم، ورضي بالأمر الواقع، ورأى مـن الأسـرار والعجائـب الروحيـة مـا لا مجـال لذكـره في هذا التعريف الاستطرادي.
لم يكن أبواه يعلمان أنه سيصبح علماً شاهقاً من أعلام الأئمة الإسلامية، وفي خلال هذه الفترة استدعاه المرحوم والده ليعود إليه، وكان وحيداً لأبيه بعد أن كف بصره وضاق صدره لفراقه، فكانت أفكاره وهواجسه صراعاً بين حافزين، إما اجابة طلب والده وإطاعته بالعودة وفي ذلك ضياع مستقبله، وإما الاستمرار في الدراسة والإمامة العلمية تنتظر قيادته لها، ودعا ربه أن يجمعه بوالده، فاستجاب له وأوقد الله في قلب والده نار الشوق بالتشرف بزيارة الأعتاب المقدسة والحنين للقاء فلذة كبده، فحضر مع عائلته إلى النجف الشريف، وهكذا تمت الكرامة الموروثة، وكانت ساعة اللقاء رهيبة يعجز القلم عن وصفها، فقد عبرت المآقي عن لواعج الأشواق، وأضاءت بصيرته بأنوار الأعتاب الطاهرة، وشفى غليل قلبه بقربه من قرة عينه.
مصابه بوالده:وقضت إرادة الله أن يفجعه بوالده، فدعاه لدار الخلود لعشر مضين من ذي الحجة سنة 1315ﻫ، فدفن في الصحن الشريف العلوي، وأصبح الإمام الفقيد ذا عائلة مسؤولاً عن تكاليف إعاشتها، ومرت سنين عجاف في العراق، فاشتد الغلاء، وقلت موارده من ريع أملاكه في جبل عامل عن المعتاد، فبارك الله في رزقه ويسّر له من أسباب التوفيق مدة إقامته بالنجف الشريف ما خفف عن كاهله أعباء الحياة، فلا سعى وراء مال، ولا احتمل منةً لمخلوق، وأخذ يعزي نفسه بالصبر والسلوان والتسلي بالتأليف والكتابة الإبداعيةالرائعة، أوليس الألم هو الذي يصهر العبقرية فيخرج منها آيات بينات؟!
إتمام دراسته:وفي أواخر شهر جمادى الثانية من سنة 1319ﻫ ـ 1900م نال شهادة الاجتهاد عن شيوخ أعلام، فاستوى هذا الإمام العبقري على كرة الفضائل، فكان علم علماء عصره، وأفضل فضلاء زمانه، وأزمع العودة إلى دمشق، فاحتفل بوداعه في العراق وبقدمه بدمشق، واستقام حتى وفاته، فكان رحمه الله مشكاة أنوار العلماء الأعلام.
عنه خذي يا نفس أن تبغي الهدى | وفيه أحتمي وله أنتمي وبه أهتدي |
رحلاته إلى الحجاز: وفي سنة 1321ﻫ سافر إلى الحجاز، وأدى فريضة الحج فاحتفى به أشراف مكة بما يليق بعبقريته وطارفه التليد، ثم زار المسجد الأقصى في القدس، وفي سنة 1331ﻫ زار ثانية قبر الرسول الأعظم ﷺ، وألف رسالته الشهيرة عن الوهابيين، واشتهرت مؤلفاته واحتلت مكانها الأول في الأقطار الإسلامية، وغدت مناقبه على ألسنة الدهر مأثورة.
مؤلفاته: كان رحمه الله مسرفاً في نشاطه، محبًّا للعمل، دائب الإقبال عليه في مقدرة تفوق كل وصف، ومن المحال في حديث قصير مثل هذا أن أوفي جميع نواحي العظمة حقها في شخصية الإمام البارزة، فالعظيم لا تحد بحياته العظات، فهو حي بآثاره ومآثره، فقد جادت قريحته بآيات بينات من المؤلفات الفريدة الكثيرة، فكان بحق نابغة عصره.
شعره: إن الأدباء يتتبعون أسلوباً قديماً بالياً سداه السجع، ولحمته التصنع، أما الفقيد الإمام الشاعر المتضلع المتفنن فقد استطاع أن يستخلص لنفسه أسلوباً يدل على ذكاء وفطنة وقدرة خارقة، فكان بيانه من السهل الممتنع كما يعبرون عنه في لغة البيان، فإن ما انتجه من أدب حقيق بكل زهو وحري بكل كبرياء، نظمه كالدر المنظوم، ونثره يفوق نثر النجوم، ومن روائع شعره في الغزل قوله:
تشابهت الراحان ريقك والخمر | جلاها على الندمان كأسك والثغر |
ويفعل منك اللحظ ما تفعل الظبا | سوى أن جرح اللحظ ليس له سبر |
ومنها:
وفي الخدر ظبي يصرع الأسد عامدا | بألحاظه الله ما ضمن الخدر |
يفوق الظباء العين جيداً ومقلة | ويشبهها منه التلفت والذعر |
محضت له من قلبي الود خالصا | وأصبح حظي عنده الصد والهجر |
فنونه: لقد كانالإمام فناناً بروحه وطبعه، عليماً بالأنغام وأوزانها، فالنوابغ لا تقف عبقريتهم عند حد، كان يهوى الموشحات وسماع ألحانها، فقرائح العباقرة تحتاج إلى الشحذ بين حين وآخر، فمن قضى معظم أوقاته في الحياة بين التأليف والمناظرات والمساجلات وقراع القوافي حق له أن يأخذ قسط من الراحة ويرفه عن نفسه بسماع الأصوات الجميلة والألحان الشجية المنعشة للأرواح، وقد لحن الإمام الفقيد موشحاً مؤلفاً من أحد عشر مقطعاً مع لازمة الدخول، يعتبر من أروع الموشحات بلاغة وسحراً في لحنه وقافيته، لحن مقاطعه شاعر العبقرية والفن المرحوم ملا عثمان الموصلي، فجعل اللازمة من نغمة البيات كرد، وكل مقطع بنغمة مستقلة، أكتفي الآن بذكر مقطعين منه:
(اللازمة)
علّلا قلبي بذكر المنحنى | وزمان قد مضى بالأجرع |
هل يعيد الله ذاك الزمنا | لي فتخبو جمرة في أضلعي |
لي بوادي المنحنى ظبي غرير | بالجفا والصد أوهى جلدي |
قده يهزأ بالغصن النضير | ويباهي خده الورد الندي |
تركت ألحاظه قلبي أسير | في هواء ما له من مقتدي |
وعيوني لا تذوق الوسنا | لقد تجافى جسدي عن مضجعي |
(دور)
يا مقيل السرب من وادي الأراك | بين جمع والكثيب الأوعس |
فيك ظبي لم يدع بي من حراك | راتع بين الظباء الكنس |
ودمي قد طل عمداً في ثراك | بين أدماء وظبي ألعس |
ولكم ساق إلى قلبي الضنا | بحشاً واه وجيد أتلع |
وبطرف فاتن مهما رنا | صرع الأبطال أدهى مصرع |
صفاته: ما هو الوصف الذي أستطيع أن أعبر به حيال شخصية الإمام العظيم بعد أن أفاض الواصفون عن شمائله المحمدية، أما محياه ووقاره فصورته الغراء تنبئك عن طلعة علوية، ومهابة حسنية موروثة، إذا تكلم سمعت صوتاً لؤلؤيًّا كأنه إيقاع النغم، متعه الله بإيمان قوي وشخصية جذابة عز نظيرها، هادئ الطبع، فهو كالغدير الذي يسقي الغابة الظمأى في سكون الليل.
أما سحر منطقه تلك الهبة السامية التي منحه الله إياها فقد كانت عنصراً قويًّا من عناصر نجاحه، وفيها فصل الخطاب بإسقاط حجة مناظريه بالحديث. ومن أبرز صفاته إسداؤه الخير للناس، وإنشاؤه المدارس، وانتصاره للحق.
وفاته: لقد أدركته الشيخوخة وهو في تمام عقله وذاكرته إلى أن دعاه ربه وكان يستجم في مدينة بيروت، فلبى الدعوة لمنازله الخالدة في يوم الأحد 15 رجب سنة 1371ﻫ الموافق 30 آذار سنة 1952م وأقيم له مأتم عظيم كان أوله في بيروت وآخره في دمشق، ولم يبق علم ولا عظيم إلا وشيعه لمثواه الأخير، وقد وفدت على دمشق وفود كثيرة من العراق والعجم للتعزية به رحمه الله رحمة واسعة، وأجزل مثوبته، وعوض المسلمين خيراً يوازي فقده من بينهم، آمين.
دفن بروض السيدة زينب، واحتفل بتشييع جنازته بشكل منقطع النظير، وأفاض الشعراء والأدباء برثائه وإحياء الذكرى السنوية لوفاته، فسلام عليه بين الأبرار الخالدين.
* * *