محمد إسعاف النشاشيبي
محمد إسعاف النشاشيبي([1])
أديب العروبة العبقري المرحوم محمد إسعاف النشاشيبي
أصله ونشأته: ولد فقيد العروبة في بيت المقدس سنة 1300ﻫ ـ 1882م من والدين كريمين هما عثمان بن سليمان النشاشيبي، وابنة الحاج مصطفى أبو غوش، نشأ في عصر كان فيه المتعلمون قلائل، أخذ العلم عن أعلام عصره وفي الكتاتيب الأهلية، ثم أرسله والده إلى المدرسة البطريركية في بيروت، فلبث زهاء أربع سنوات يتلقى العلم على فطاحل الأعلام كالغلاييني والحبال والخياط وغيرهم، فتذوق الأدب وألمّ بالفرنسية إلماماً حسناً، وعاد إلى بلده شابًّا يافعاً، وأراد والده المعروف بأدبه وذكائه أن يكون عوناً له على إدارة أملاكه الواسعة وأمواله الطائلة.
في ميدان الصحافة: لقد صال فقيد الأدب بقلمه ينظم وحيناً وينثر حيناً آخر، فتولى رئاسة تحرير مجلة الأصمعي، ومجلة النفائس، واستمر إصدارها تسع سنوات لم يخل مجلد منها من شعره أو نثره، وكان من كتاب مجلة المنهل، وكتب في عدد من الصحف العربية في مصر وسوريا.
آثاره ومؤلفاته: أصدر في عام 1912م كتاب نشره في مجلة النفائس بعنوان (أمثال أبي تمام)، فقد كان يرجو أن يصنع في النثر ما صنع أبو تمام في الشعر، وهذا سر تفرده بأسلوبه العجيب، وترك آثاراً مخطوطة حمل منها ثلاثة إلى القاهرة في رحلته الأخيرة ليطبعها، وهي (نقل الأديب)و(أمالي النشاشيبي)، و(التفاؤل عنـد أبـي العلاء)، أمـا سائـر آثاره التي لم تر، فهي كتاب الأمة العربية، وحماسة النشاشيبي، وجنة عدن، و(مجموعة النشاشيبي)، و(البستان)، وفي الأخيرتين يتجلّى ذوقه الرفيع وتوجيهه القومي، على أن أعظم أثر تركه هو كتاب (الإسلام الصحيح).
أدبه وشعره: كان رحمه الله أدبياً فذًّا لا نظير له بين أدباء عصره، وقد جاهد ليبدع في النثر إبداع صاحبه أبي تمام في الشعر، فقد أراد أن يكون أدبياً من الطراز الأول، ولم يحلّه شعره هذه المرتبة فزهد فيه غير آسف، وحقق له النثر ما أراد، فأجمع الناس على وصفه (بأديب العروبة وشاعر فلسطين).
ومن مصائبه في حياته أن رأسه ارتطم بحجرة صماء، فعانى آلاماً مبرحة، وزاده شقاء بؤس أمته واستخذاؤها، فنظم قصيدة رائعة استهلها بقوله:
العرب مات شعورهم | فأندبه دهرك باكيا |
ولّى فولى بعده | أنسي وساء مآليا |
قد كنت أطمع أن أرى | وطني بهيجاً زاهيا |
فوجدته في كل علـ | ـم أو علاء خاليا |
فرئيته وندبته وسكبت | دمعي غاليا |
فسعادتي يا ابن الكرا | م وبغيتي ومراميا |
أن تصبح العرب الأذلة | سادةً ومواليها |
ومن شعره الوطني قصيدة بليغة عنونها فلسطين والاستعمار الأجنبي، منها قوله:
يا فتاة الحي جودي بالدماء | بدل الدمع إذا رمت البكاء |
فلقد ذلت فلسطين ولم | يبق يا أخت العلى غير دماء |
إنها أوطانكم فاستيقظوا | لا تبيعوها لقوم دخلاء |
كيف ترجون حياة بعدها | ونعيماً وهناء وصفاء |
وفي غمرة الحرب العالمية الأولى عكف على القراءة والمطالعة لا يبرح بيته، ومن آثاره قصيدة قبح فيها سياسة الترك الجائرة، ومطلعها:
لئن ساس أبناء المغول قبيلة | نأى الخير عنها والبلاء أقاما |
وقبيل انتهاء الحرب انضم إلى أساتذة الكلية الصلاحية في القدس، وبلغت محاضراته الأدبية في الحث على العلم أوجها، وبعد الحرب الكبرى الأولى انصرف الفقيد إلى التعليم ونشر رسالته في حب العرب والعربية بصوت عربي فصيح وجرأة كانت على أخصامه كحد المهند الصارم، وانتقل من التعليم إلى التفتيش إلى أن أضحى مفتشاً للغة العربية حتى سنة 1929م.
تركه العمل: وبعدما ترك إدارة المعارف انقطع إلى الكتابة والرحلات في مصر والشام، وألقى في سنة 1934م محاضرة في جامعة بيروت الأمريكية عنوانها (قلب عربي وعقل أوروبي)، وهي دفاع عن العربية لا يدانية دفاع في الأدب العربي الحديث مما أذاع صيته في البلاد العربية عامة، فتهافت الأدباء على لقائه وتعظيمه، وألف رسالة عنوانها (العربية وشاعرها الأكبر أحمد شوقي) ألقاها في المهرجان الشوقي، ولما توفي شوقي بكاه الفقيد العبقري بكلمة بلغ أسلوبه فيها الذروة، وجاء معه النثر الموزون بلا تكلف، وكانت آلامه النفسية في هذه الفترة تملي عليه كلاماً أشبه بالنواح منه بالكلام المألوف، كما ترى في كلمته (بيروت والغلاييني) و(البطل الخالد صلاح الدين)، والقسم الأخير من (الشاعر الأكبر أحمد شوقي) وخير ما يعبر عن هذه الحالة بيته الذي ارتجله في جلسة مع أمير الشعراء:
لا تلمني بانحراف | كان غيري يتكلم |
ولم ينظم الشعر بعد الحرب الكبرى، فقد بدأ شاعراً وأديباً ومنشئاً وناقداً وراوية وانتهى فقيهاً مجتهداًقوي الحجة ناصع البيان، وكأنه من فقهاء المسلمين في صدر الإسلام يتخذون اللغة وسيلة للتفقة في الدين وفهم أسرار القرآن الكريم.
أوصافه ووفائه: كان رحمه الله جريئاً في الحق، ذا شمائل عبقة موروثة، وفيًّا يحب لغته العربية حبًّا منقطع النظير، وغيرته على وطنه العربي الكبير عظيمة ونادرة، وساقته منيته إلى مصر في شتاء عام 1948م ليشرف على طبع مخطوطاته الثلاثة، وليعالج مرضه، فعاجلته المنية فجأة في صباح يوم الخميس الواقع في 22 كانون الثاني سنة 1948م وهكذا انطفأت شعلة كان لها سنا البرق وأريج المسك.
* * *