جاري التحميل

محمد البزم

الأعلام

محمد البزم([1])

(1887 ـ 1955م)

أصله ونشأته: هو المرحوم محمد بن محمود بن سليم البزم، وقد هبط أحد أجداده دمشق منذ أكثر من مئتي سنة جالياً من العراق لأسباب غير معروفة، ولد بحي الشاغور بدمشق سنة 1887م، وقاربت سنه العشرين وهو لا يعلم من القراءة إلا بعض سور قصار من القرآن الكريم، وصدف أن صحب عمه في بعض أسفاره التجارية إلى بيروت، فاشترى له كتاب (المستطرف)، فاكب عليه مطالعة وتكراراً، وأتيح له أن يدخل المكتبة الظاهرية، فأخذ ينظر في شتى الكتب من أدب واجتماع وتاريخ وفنون، وطفق وصديقه الشاعرالعبقري الأستاذ خير الدين الزركلي يلازمان حلقات شيوخ دمشق وعلمائها، حتى قذفته الهداية إلى العلامة المرحوم الشيخ عبد القادر بدران، فقرأ عليه شيئاً من ديوان المتنبي وغيره، ثم لم يلبث أن اتصل بنابغة علماء دمشق المرحوم جمال الدين القاسمي، فقرأ عليه البلاغة والمنطق، وقرأ على المرحوم صالح التونسي العلوم العربية، ثم انصرف إلى المطالعة بنفسه.

في خدمة العلم: وفي عام 1913م انتدبه المرحوم الشيخ كامل القصاب مدرساً للعربية في مدرسة العثمانية، فلم يزل كذلك حتى دهم الناس نشوب الحرب الكبرى فجرفه سيلها، وانتظم في الجندية كاتباً في أحد المصحات.

نشأته الأدبية: بدأ ينظم الأبيات القليلة في موضوعات مختلفة، وأول ما نظمه من الشعر الموزون بيتين ووصف بهما نفسه وقد أغراه أحد رفاقه فجرع قليلاً من الخمر فخيَّل إليه أن الأرض تهوي به صعداً، فقال:

شربت من الصهباء عشرين درهما

فخيَّل لي أني صعدت إلى السماء

وصافحني المريخ والبدر قال لي

ألا عم صباحاًأيها الخدن واسلما

ومن ثم أخذ ينشر في الصحف قصائد ومقطوعات قومية، وكانت في تلك الأيام العصيبة حماة تلهب أفئدة العرب بالنقمة والغضب على الأتراك، ولقي من الحظوة والقبول ما شجعه على متابعة النشر، ولكن أمد ذلك لم يطل كثيراً حتى شهر التركالنفير العام، فكمّت الأفواه، ومشت الخشية إلى النفوس، واشتدت المراقبة، وأصلت السيف فوق أعناق الأحرار من العرب، فكان كلما قرض شيئاً من الشعر عمد إلى أمه فدسه إليها، ورجاها أن تبالغ في إخفائه والحرص عليه، وعندما جلا الأتراك طلب إلى والدته ما اجتمع لديها، فكان تفتيشها عبثاً، وهكذا ضاع ديوان من دواوين الثورة العربية نظمه أحد شعرائها ومؤرخيها.

لقد كان حريصاً على الدعوة إلى مجد العرب، وقد شفعت هذه الدعوة أكثر شعره، وسجن عندما غادر الأتراك دمشق متهماً بجرم سياسي، فقال:

لا السجن يردعه ولا أغلاله

عن غاية تسمو لها آماله

مقتوه إذ نقموا عليه جلاله

فسعوا به كي لا يبين جلاله

ويحن الشاعر إلى العراق ولا يرى في حنينه وصبوته إليه بدعاً ولا غرابة، وقد أشار في إحدى قصائده إلى ذلك فقال:

جلّق منبت جسمي وعلى

دجلة محتد قومي الغابرين

وإلى بغداد مهوى النفس لي

أنة تنتابني حيناً فحين

وقد دعا إلى تضامن أبناء العروبة، وأنكر عليهم تفرقهم وطاعة جهالهم، فيقول:

يا أيها الوطن الذي عتت به

أبناؤه فترأست جهاله

وتناوبته الحادثات خساسة

في النازلات المصميات زواله

وتفرقت شيعاً به أبناؤه

وتخاذلوا فتقطعت أوصاله

ولعل البزم كان من أكثر شعراء العرب المعاصرين نقمة على الحياة وشعوراً بآلامها، فقد لقي من إلحاح المصائب عليه ما ولد في نفسه كرهاً للحياة ونفرة من أكثر أبنائها، وقد أدركته حرفة الأدب قبل أن يدركها أو يسمع بها، فلما أصبح أدبياً عرفها حق المعرفة.

آثاره: لم يتح له الحظ نشر آثاره ومؤلفاته في حياته، وقد أنفق في درس العربية ما يقارب ثلاثين عاماً، ففهم أسرارها وعرف قواعدها وكشف النقاب عن أصحابها، فوجد فيهم من أصلح فيها وسهلها ليفهمها طلابها، ومن أفسد فيها وعقّدها لتكون له وسيلة إلى الربح والكسب، ولا شك أن أبحاثه في العربية هي أهم ما قام به وأنفق فيه عمره.

وهذه هي مؤلفاته:

1 ـ (كتاب اللحن)، وقد تتبع فيه اللحن في كلام العرب، ودرس أسبابه وأنواعه.

2 ـ كتاب (النحو الواقع)، وهو قواعد بعضها مكتوب، وبعضها في الصدر لم تتح له كتابتها حتى وفاته.

3 ـ (الجحيم)، وفيه إقامة الدليل على أن اللغة العربية سهلة جميلة في عامة فنونها.

4 ـ (الجواب المسكت)، وهو مجموعة كبيرة لكل جواب مسكت قالته العرب، والشاعر البزم مولع بمثل هذا الجواب، حريص عليه في روايته وحديثه.

5 ـ (الديوان)، وهو لم ينشر منه إلا جزءاً يسيراً في الصحف والمجلات.

وهكذا فإنه لم يستطع طبع آثاره، ولكن عمله في التعليم خلا (25) عاماً قضى منها (17) عاماً في التجهيز، عمل ظهرت آثاره وتحدث به الناس، ولو كفتعنه الأدواء وتمتع بما ينبغي له من خفض عيش وراحة بال لأخرج للناس ما لديه.

في خدمة العلم: انتسب لخدمة الدولة بتاريخ 7/12/1924م، فعين أستاذاً للأدب في المدارس الثانوية بدمشق، فظهر فضله في توجيه طلابه إلى التفاني بحب الوطن واللغة العربية، فكان له رأي خاص في أسلوب تدريسه النحو وفنون الأدب، وتخرج على يديه الكثير من أعلام الأدب في سورية والعالم العربي، وخلف وراءه أجيالاً من حملة مشاعل الأدب والوطنية تخلده في شعره وأدبه إلى الأبد، وفي سنة 1942م انتخبه المجمع العلمي العربي بدمشق عضواً عاملاً، وعهد إليه النظر في النواحي اللغوية التي تعرض على المجمع، وكلفه بإلقاء قصيدة في المهرجان الذي أقامه للذكرى الألفية لأبي العلاء المعري سنة 1944م.

شعره: يعتبر البزم من فحول الشعراء الخالدين، وقد جادت قريحته بقصائد كثيرة تعد قلائد مختارة في جيد الأدب العربي والشعر الوطني والقومي، منها قصيدته البليغة المشهورة بعيد الجلاء، نقتطف منها قوله:

دغدغ أمية في غافي مراقدها

وقل لها وسيصغي الترب والرجم

هذا تراثك قد رد الزمان له

بناءه مشمخراً ليس ينهدم

ومنها:

يوم الجلاء وما في الأرض ذو عظم

يبغي كفاءك إلا خانه العظم

لقد اشتهر الشاعر المترجم بإبائه وعزة نفسه، والتشدد في المحافظة على كرامته، فمن قوله في ذلك:

ولي عن مقام الحيف والهون نبوة

ترفع بي حيث المجرة تنهر

وعزة نفس لا ترام كأنني

إذا سرت يقفوني من الجن عسكر

ويرى في الموت راحة أبدية، فيقول:

وما الموت لولا روعة عند ورده

سوى الراحة الكبرى تود وتؤثر

كان قدوة في النضال ضد المستعمر الغاشم أيام كانت البلاد ترزح تحت كابوس نير الانتداب الفرنسي، فيخاطب أمته بقوله:

آية الضعف أمة تكثر النو

ح وتقضي أيامها تغريدا

خور منك أن تعز من الد

مع أو الحلم رقة وسمودا

ذلة الحزن ساعة ثم تأتي

غضبة تترك البليد حديدا

هل سمعتم رد البكاء فقيدا

أم رأيتم فك الأسى مصفودا

لقد رافق القضية الوطنية منذ فجرها، وأرخ الوقائع الوطنية والقومية بقصائد طويلة، ومن شعره الذي يستنهض به الهمم قوله:

أقسمت بالضاد فخر الناطقين بها

إن كان يقنع قومي مني القسم

لأبعثن بهم شعراً يثير بهم

عزائماً كعباب البحر يلتطم

ولي شوارد شعر في استشارتهم

هي العواصف إلا أنها كلم

وفاته: لقد قسى عليه الدهر وحرمه نعمة الراحة في أواخر حياته، فقد عانى آلام مرض عضال ألزمه الفراش، وبتاريخ 24 أيلول 1953م أحيل إلى التقاعد، وسئم أقرب الناس إليه العناية في خدمته بعد أن فقد بصره وثقلت عليه وطأة المرض، واتصل بمسامع الزعيم أديب الشيشكلي رئيس الجمهورية العربية الأسبق وهو أحد تلامذته ما حل بأستاذه الذي حمل لواء الأدب نصف قرن ونيف، فأمر بإدخاله مستشفى يوسف العظمة العسكري في المزة، فبقي فيه ثلاث سنوات يكابد الآلام إلى أن وافاه الأجل.

وفي يوم الإثنين الثاني عشر من شهر أيلول سنة 1955م وافته المنية، ومشى في تشييع هذا الشاعر العربي الكبير القليل من معارفه وتلاميذه الشباب، ودفن بمقبرة باب الصغير.

*  *  *

 



([1])  (أ) (2/132 ـ 134).

الأعلام