محمد بقلاوة منيا
محمد بقلاوة منيا([1])
العندليب الموهوب المرحوم محمد بقلاوة منيا الحمصي
أصله ونشأته: هو المرحوم محمد بن السيد خالد منيا بقلاوة، ولد في حمص سنة (1859) ميلادية، وكان يسكن في محلة باب السباع البعيدة عن المدينة متمتعاً بشمسها الصافية وهوائها الطلق، نشأ بكنف والده وتلقى العلوم العادية في عصره، وحفظ القرآن العظيم، ثم أرغمته الظروف للعمل الصناعي فكان عاملاً شريفاً يعيش من كسب يديه وعرق جبينه قانعاً بالرزق الحلال، بعيداً عن الحسد، لا ينظر إلى غيره ممن آتاهم الله النعم والخيرات على أهون سبيل إلا نظرة غبطة وشكر لله عز وجل، إلا أن الطبيعة التي قست عليه بالكفاح المضني في الحياة لتأمين اللقمة الحمراء قد أنعمت عليه بصوته الجميل الذي كان مضرب الأمثال بجمال روعته وتأثيره.
فنه: كان صوت الفقيد شجيًّا وكاملاً قويًّا وعريضاً مع قرار الدوكاه والجواب العالي، ويعتبر صوته في الدرجة الثانية بالنسبة إلى صوت المرحوم عبد الخالق عبارة الفريد بنوعه.
كان رحمه الله من تلامذة أبي خليل القباني لما أقام بحمص، حافظاً التراث الفني العربي من أدوار وموشحات وقصائد قديمة، فكان ينشد القصائد الغزلية والنبوية والصوفية الكثيرة وهي من ألحانه، ويميل إلى النغمات العراقية والحجازية والبياتي نوا والعجم، وكانت محاسن إلقائه في مواقفه الغنائية وقفلاته الفنية قوية وعظيمة التأثير على قلوب السامعين، فكم أثار صوته الأشجان وملك القلوب فانهارت عواطف عشاق فنه فأبكاهم وأدمى قلوبهم، وقد تأثر فنه بروائع الفن التركي فاقتبس من ألحانه، فكان يمزجها بالمغنى العربي فتخرج فاتنة ساحرة.
سفره إلى استانبول: وشاع ذكره بين الناس، فاتصل بالمرحوم أبي الهدى الصيادي الرفاعي شيخ السلطان عبد الحميد شهرة صوته، فدعاه لزيارته في استانبول، وشاء والده أن يقف عثرةً في سبيل سفره لاتكائه عليه في كسب العيش من صناعته، وقد رأى كل خطب يهون لديه دون نواه، ولكن من يجرؤ على مخالفة مشيئة شيخ السلطان وهو في سلطانه وقمة مجده؟ فامتثل للأمر الواقع من غير رضًى، وأشاح بوجهه عنه ساعة الوداع، وهو يكتم لوعته وعواطفه وقد خنقته العبرات، ودامت حسرته على فراقه الذي فرض عليه فرضاً زمناً مريراً وما كان ليصدق أن يراه مرة أخرى في حياته حتى أقر الله عينه بلقائه قبيل الانقلاب الحميدي فزال عنه اليأس والقنوط ودبت في جسمه القوة والحياة.
المنشد الممتاز في تكية الصيادي: ولما وصل إلى استانبول نزل ضيفاً موفور الكرامة والرعاية في تكية الصيادي الرفاعي، فكان أحد المنشدين البارزين فيها براتب مناسب، فآثر البقاء، وانشرح صدره مما رآه من العظمة والعز والجاه ولذة الحياة.
كانت مرتبته في الإنشاد تأتي في الدرجة الثانية بعد مرتبة المرحوم عبد الخالق عبارة صاحب الصوت الفريد، وكان في آخر فصول الذكر ينشد هذه الأبيات الرفاعية، وهي:
في حالة البعد روحي كنت أرسلها | تقبل الأرض عني وهي نائبتي |
وهذه دولة الأشباح قد حضرت | فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي |
فكان صوته البديع يحرك الجماد ويمتلك الأرواح والقلوب فيخيم الخشوع والتجلي بأروع مظاهرهما في الحاضرين، وكان الشيخ الصيادي رحمه الله يتقدم منه بعد الانتهاء من الإنشاد زيادة في إكرامه، ويشكره قائلاً: أنعشت الأرواح، شرح الله صدرك يا سيد محمد.
ومن ساقه الحظ ورأى تكية الصيادي الرفاعي في ذلك العهد وهي تعج بالأمراء والعظماء وقد حضروا للتملي برؤية طلعة شيخها الوقور وسماع أجمل أصوات أبدعها الله في الكون وهم يغردون كالبلابل؛ يعلم ما كانت عليه هذه التكية ومنشدوها من العظمة والبهاء.
لقد لبث المترجم رحمه الله عهداً طويلاً في استانبول وهو على أحسن حال وأرغد عيش، وراقت له الحياة الاجتماعية في بيئة راقية، فكان أينما حل يلقى التجلة والإعجاب بصوته وفنه ودماثة أخلاقه، ولكن هيهات للدهر أن يصفو، فقد لاحظ الفقيد أن في جو السياسة التركية غيوم وبروق لا بد أن تنفجر عن نتائج خطيرة، وقد صدقت فراسته، فاستأذن بالسفر إلى حمص وعاد إليها قبيل الانقلاب التركي.
فتبدلت الأحوال وتعكر صفو من صفت لهم الحياة وارتشفوا الكؤوس المترعة بالسعادة والنعيم حتى الثمالة، فوقع الانقلاب التركي الحميدي، وطوّح بعرش السلطان واتباعه وزالت دولته ودنياه، وسبحان الذي لا يتغير.
صفاته: كان المترجم في أوساط حمص قرة عين عشاق فنه، فإذا حلّ بناد تهلل بالبشر والسرور، ولازم حلقة فنية ضمت نخبة من كرام الشعراء والفنانين والمطربين في عهده ازدانت بهم الأيام والليالي، فكان بينهم كباقة ورد عبق أريجها العطر، كان رحمه الله متواضعاً كريم الخلق والنفس، نبيل القصد، فصيح اللسان، ذكيًّا، مستقيم الأحوال، محمود السيرة، جمع من رواتبه والهدايا التي أُغدقت عليه أثناء إقامته في استانبول ثروة استطاع أن يعيش بها بقية حياته دون حاجة أو إملاق.
وفاته: وصفت له الحياة بين أخدانه حتى آذنت شمس هذا النجم الساطع في الغروب، فوافاه الأجل المحتوم في اليوم الثامن والعشرين من شهر مايس سنة (1916) ميلادية، ودفن في حمص وأعقب ولداً واحداً.
* * *