جاري التحميل

محمد بن سليمان الجندي

الأعلام

محمد بن سليمان الجندي([1])

حلقة حمص الفنية

أحمد أبو خليل القباني في ضيافة الوجيه المرحوم محمد الجندي

باعث النهضة الفنية في حمص

مرت علـى البـلاد السوريـة محـنٌ وأهـوال كانـت خلالهـا ميداناً لحروب مسـتمرة حرمتهـا نعمـة الأمن والاستقرار طوال عدة قرون، ومن البديهي أن لا يعيش الفن في جوٍّ من الوجل والضنك والشقاء، بل هو وليد الطمأنينة والبهجةواليسر، وخلت حمص إلى ما قبل نصف قرن ونيف من كل روح فنية حتى عهد أبي خليل القباني، وكان هذا العبقري المتفنن صديقاً عزيزاً على الوجيه الأجل المرحوم محمد الجندي الحمصي وهو (والد المؤلف)، فدعاه لضيافته فأقام مع عائلته في حمص مدة طويلة كما يظهر ذلك من الاطلاع على تاريخ حياته المثبتة في الحلقة الشامية.

 ولما كان لعهد أبي خليل علاقة بحياة مضيفه الذي يعتبر بحق باعث النهضة الفنية في حمص، فقد وجب نشر تاريخ حياته إثباتاً لهذه الحادثة التاريخية.

المرحوم محمد الجندي: هو ابن المرحوم سليمان بن محمد بن عثمان بن عبد الرزاق الجندي العباسي، ولد في حمص سنة 1836م، ودرس على أعلام عصره، فكان عالماً متضلعاً بالعلوم العربية والرياضيات والفقه والفرائض، وكاتباً ناثراً بليغاً في اللغتين التركية والعربية، تدرج في وظائف الدولة، فكان قائمَ مقامٍ في قضاء جماعين من أعمال نابلس في فلسطين ورئيساً لبلدية حمص مرات عديدة، ورئيساً لمجلس المعارف فيها حتى وفاته، قام بمشاريع عمرانية شهيرة مازال أثرها بارزاً للعيان، ورث حب العلوم والفنون فكان صاحب الفضل الأول بخلق الروح الفنية وإذكاء جذوتها في حمص بعد انطفائها عدة قرون.

أبو خليل القباني في حمص: ونزل القباني بضيافة صديقه الوجيه الحمصي فأسكنه في دار مجاورة لمقام أبي الهول في حي الفاخورة، وسعدت حمص بوجوده فالتف حوله عشاق الفن ينهلون من مورده الصافي الفن الأصيل، فامتهن صناعة النشاء في قاعة شيدها صديقه ليؤمن إعاشته منها، كيلا يشعر القباني الذي اشتهر بعزة النفس والكرامة أنه عالة على أحد، ويتابع في الليل ممارسة الفن، فتلقى عنه نخبة مشهورة من فناني ومطربي حمص علم النغمة والموشحات والأوزان وأصول رقص السماح، وكانت الحلقة مؤلفة من المرحومين الشيخ طاهر شمس الدين، والشيخ مصطفى زين الدين، الشيخ محمد الخالد الحلبي، الشيخ محمد الخالد الأنصاري، الحاج محمد الشاويش، الشيخ مصطفى عثمان، الشيخ إبراهيم عبد المولى الأعمى، الشيخ علي نائلي، الشيخ راغب الملوحي، داود قسطنطين الخوري، ونصري عجاج، خالد القصير، عبد الخالق عبارة، محمد منيا بقلاوة، وغيرهم كثير، وقد برز هؤلاء في ميدان الفن فأصبحوا أعلاماً مشهورين.

أسرته: وقد أنجب من الذكور عشرة، وهم: أبو الخير، سليمان، لطفي، خالد، صادق، عزت، جودت، رفعت، فوزي، وأدهم مؤلف هذا الكتاب، وتسع كرائم، وتسنم أكثرهم مناصب كبيرة في الدولة.

أوصافه ومآثره: كان سيد قومه حكيماً مدبراً، ذا هيبة ووقار، كريماً، لو شاء لتناول العنقاء، واستهوى إلى كفه الجوزاء، كما وصفه الشاعر الهلالي الحموي بقصيدة منها قوله:

أيا سائلي عن وكف كفيه كف لا

تسل مغرقاً في البحر من سائل القطر

نعم أنا ممن دأبهم مدح منعم

وديدنهم خوض البحار من الشعر

على حب جندي جميع قلوبهم

مجندة الأرواح من عالم الذر

كان رحمه الله شديد العناية والاهتمام بمستقبل أنجاله، يبذل المال بسخاء في سبيل تثقيفهم، وهو أول حمصي بعث بأبنائه إلى العاصمة التركية للدراسة في جامعاتها العالية، ومن أبرز مزاياه أنه كان كبير إخوته، فشاطرهم ما جناه في حياته، أبي النفس، يكره الملق والرياء، رفض الأوسمة والألقاب التركية التي كانت تمنح لطالبي المجد المزيف عن طريق الشراء.

وفاته: وفي شهر أيلول سنة 1907م وشعبان سنة 1325ﻫ فاجأته المنية إثر عملية جراحية، وقد دفن في مقبرة الباشورة في بيروت، فكان المصاب بفقده عظيماً ليس في عترته وأسرته، بل لدى جميع خلانه وعارفي فضله، وقد أفاض مصاقع الخطباء والشعراء في وصف شمائله العباسية ومفاخر مناقبه وآثاره، ومنهم الشاعر المجيد المرحوم أنيس بن أسعد نسيم الذي رثاه بقصيدة عبر فيها عما تكنه قلوب نصارى حمص من محبة وتمجيد آثرت بعض أبياتها بوفائه ومواقفه النبيلة يوم حوادث سنة الستين المشهورة الواقعة في عهد خاله حاكم حمص البطل المرحوم عبد الرحمن بن حسين الجندي.

مصاب عظيم عز فيه التجلد

وخطب جليل عنده الصبر يفقد

فقد نعت الأخبار بالبرق سيدا

كريماً له جاه وفخر وسؤدد

ومنها:

فمن للعلى والجود والمجد والنهى

يليق وللبهتان والزور يطرد

هو العلم العالي إذا ما تفاخرت

كرام عصاميون أو طاب محتد

سمي رسول الله من نسل عمه

وذا الشرف الأعلى له الحق يشهد

فيا من حوى أدباً ولطفاً ورقة

وقلباً سليماً طاهراً ليس يحقد

لقد قلت في يوم الوداع لجمعنا

مقالاًصداه كل قلب يردد

إذا شاء ربي سوف أرجع سالما

معافى من الأسقام والعود أحمد

فمالك قد أخلفت وعداً وطالما

عهدناك عنوان الوفا حين توعد

ومنها:

أيا ابن سليمان تواريت وانقضى

زمان به كنا لعدلك نقصد

فكم من أمور معضلات حللتها

برأي سديد للأباطيل يكمد

ومن يصنع المعروف لا شك رابح

ومن يزرع الإحسان للمثل يحصد

فصبراً بني الجندي صبراً فإنكم

تثابون بالصبر الجميل لتحمدوا

فما أنتم في الناس إلا كواكب

إذا غاب منهم سيد قام سيد

لذاك لسان الحال قد جاء منشدا

لقد حلّ في دار النعيم محمد

وأرخ وفاته أحد الشعراء بقصيدة منها بقوله:

نفذ القضاء بقدرة المتعالي

فارثوا الكريم بمدمع هطال

بنداه يشمل أرخوا ويعفوه

بدراً توارى في سماء معالي

*  *  *

 



([1])  (أ) (1/73 ـ 74).

الأعلام