جاري التحميل

محمد الخالد الأنصاري

الأعلام

محمد الخالد الأنصاري([1])

الشاعر المتفنن العلامة الشيخ محمد الخالد الأنصاري الحمصي

أصله ونشأته العلمية: هو المرحوم الشيخ محمد بن خالد الأنصاري، ولد في حمص سنة 1870 ميلادية، ونشأ بكنف والده على الصلاح والتقوى، وتلقى العلوم الدينية والعقلية والنقلية على فحول العلماء الشاميين والحلبيين والحمصيين، وتجلت آيات ذكائه وفراسته وهو فتى في حلقات الدراسة، ونال زهاء (32) شهادة علمية من كبار العلماء الأعلام، وإجازة في علم الخطوط، ودخل معترك الحياة الثقافي العلمي، فبرع وفاق واستفاد من علومه وفنونه وفضله الكثير ممن يقدرون مواهبه ويعتزون بمآثره ومناقبه الحميدة.

فنه: يعتبر الفقيد المترجم من أعلام الفن الشرقي، ذو اطلاع واسع في علم النغمة والأوزان، نظم الكثير من الموشحات والقدود البديعة، فهو ممن أسعده الحظ فكان أحد تلامذة المرحوم أبي خليل القباني الفنان العبقري المشهور لما أقام بحمص، وعنه تلقى الفن مع نخبة من زملائه الفنانين الحمصيين، ولحن موشحات على الطريقة الأندلسية، منها هذا الموشح البديع:

أهزار صاح من غصن رطيب

أم هلال شقّ ستر الحجب

سحره فينا غدا سحر عجيب

ما له راق فيا للعجب

لازمة:

ياله بدر منير بيّن

حل في الجسم محل النفس

قده الخيروز لدن ليّن

يتثنى بالقوام الأنفس

إن أهل الحب فيه بيَّنوا

لمريد الوصل قتل الأنفس

قلت زرني منيتي قبل الرقيب

إنما وصلك جلّ المطلب

واشف صبًّا مدنفاً أضحى كئيب

قال ما الوصل بهذا الطلب

أما القدود، فقد نظم منها على أبدع القوافي، وعارض بشعره الكثير من الموشحات الشهيرة في المجتمع.

شعره ومؤلفاته: كان الفقيد رحمه الله بليغاً في نثره ونظمه، له ديوان شعر في ستة مجلدات يحتوي على قصائد كثيرة في الغزل والمرائي والتهاني والتواريخ والتشاطير والتخاميس، وأشهرها تشطير القصيدة الهمزية ومطلعها (كيف ترقى رقيك الأنبياء)، و(البردة الشريفة للإمام البوصيري) و(التوسلية) للمرحوم الشيخ أمين الجندي، و(لامية ابن الوردي)، ونظم نور الإيضاح في الفقه الحنفي، وفسر القرآن الكريم جميعه شعراً، ونظم لقطة العجلان في أصول الفقه الشافعي، وشرح الأشباه والنظائر في الفقه الحنفي، وشرح الوهبانية في الفقه الحنفي أيضاً، وله كتاب في علم الفلك، وآخر في الصافنات الجياد، ومؤلفات أخرى، وهذا نموذج من تشطيره لبيتي السيدة عائشة أم المؤمنين:

ولو سمعوا في مصر أوصاف حسنه

لتاهوا بمعناها وغابوا عن الرشد

ولو لمحوا في النوم طيف خياله

لما بذلوا في سوم يوسف من نقد

لواحي زليخا لو رأين جبينه

ملا الكون إشراقاً لمَتُنْ من الوجد

ولو مرّ مجتازاً بهن منقبا

لآثرن بالقطع القلوب عن الأيدي

رحلاته: سافر الفقيد رحمه الله إلى الأستانة، وقابل السلطان عبد الحميد وأطلعه على بعض قصائده في التشطير والتخميس ونال حظوة مرموقة، وتعرف على علماء الأتراك وفنانيهم المشهورين، وسافر إلى الحجاز وأدى فريضة الحج، وكان موضع الحفاوة والتكريم أينما حل لسعة علمه وجلال قدره وهيبته وسحر منطقه.

ومن مناقبه رحمه الله أنه كان يهوى التعرف على العلماء والشعراء والفنانين ومجالستهم والتحدث إليهم، فكان إذا ساجل أو ناظر قوي الحجة يتدفق لسانه بالبيان فيأسر قلوب سامعيه ببلاغته ومواهبه.

لمحة عن حياته الخاصة: لئن كان المترجم فقيراً في المادة وهي أساس كل شيء في الحياة فقد كان رحمه الله غنيًّا في علمه ونبوغه، ولعمري فالنبوغ والمادة ضدان لا يجتمعان، فإن عبس الدهر في وجه هذا العالم الفذ وحالفه بالحرمان فضاقت به سبل الحياة فإن ذلك من سمات الدهر للعظماء والعباقرة، وليس في مقدور البشر الوقوف في وجه الأقدار وسلطانها الغالب.

ورأى المترجم النابغة أن الحياة الاجتماعية بدمشق أوسع مجالاً منها في حمص، فآثر الرحيل عنها إلى دمشق، وتجلت لوعة البين لجيرة سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه من القصائد الفريدة والقدود الرائعة التي نظمها في وصف هذا الفراق ولواعج الأشواق، وحطت رحاله في حي الميدان بدمشق على الرحب والسعة، وأقام بينهم عزيزاً مكرماً يسدي إليهم الخير من وعظه وإرشاده، واشتهر أمر الفقيد ولا غرو في ذلك فقد عرفوه في شبابه طالباً في حلقات الدراسة بدمشق، ثم عرفوه نابغة وعلامة فأجلوه وقد رأوا فضله.

ومن أبرز الحوادث التي وقعت معه في حياته أنه دخلفي عراك مضن مع المرحوم الشيخ سعيد المولوي شيخ الطريقة المولوية بدمشق، فنازعه أمرالمشيخة في عهد حاكمية حقي بك العظم، وانشق عنه أكثر مريدوه وانضموا إلى الفقيد المترجم، ونصبوه شيخا للطريقة المولوية، وكان خصمه ذا مكانة بارزة وله أنصارهومريديه، وكاد الفقيد يتغلب على خصمه القوي لولا بعض الحوادث الواقعة التي حدت به للتراجع عن هذه الفكرة، فقد أظهر نبلاً وشهامة، فآثر الانزواء ضنًّا بكرامته ودفعاً للتفرقة والانشقاق.

أوصافه: كان رحمه الله على جانب عظيم من التقوى والصلاح وطهارة النفس، جم التواضع، عظيم الهيبة والوقار، جريئاً في الحق، بعيداً عن الظهور والدعاية لنفسه، سلاحه القاطع مواهبه الفذة، فهو موسوعة علمية وآية في شتى نواحي العلوم والفنون.

وفاته: وفي سنة 1945 ميلادية وافاه الأجل المحتوم، وفقدت حمص عنصراً فاضلاً بمآثره، ودفن بمقبرة (الكتيب بحي باب تدمر بحمص) رحمه الله وأسكنه الجنان.

*  *  *

 



([1])  (أ) (1/58 ـ 59).

الأعلام