جاري التحميل

محمد الخالد الجلبي

الأعلام

محمد الخالد الجلبي([1])

شعر وفن وعلم وفضائل

مواهب المرحوم الشيخ محمد الخالد الجلبي الحمصي

إن كان للبيئة أثرها العظيم في حياة العظماء والشعراء والفنانين فللأخلاق الحكم الفصل في التوجيه الذاتي في مناحي حياتهم وأوضاعهم، هكذا امتاز فقيد العلم والفنون بالمواهب والأخلاق والفضائل، لقد كان أحد الأساتذة البارزين في المدرسة الأهلية الوطنية في حمص، وكان مديرها المربي الجليل الأستاذ عبد الحميد الحراكي الذي يعتبر مثقف هذا الجيل بحق، لا يألوا جهداً بانتقاء أفضل المعلمين لمدرسته، منهم فقيد العلم والفضل المرحوم الشيخ عبد القادر الخجا وأترابه، لم يقتصر فضل الفقيد الثقافي على النشء المدرسي في حمص فقط، بل تعداه إلى مدى أوسع، فقد وهب نفسه منذ أينعت ثقافته العلمية لخدمة الصالح العام، فاستفاد من علمه طبقات كثيرة من عناصر المجتمع.

لقد كنت أحد تلامذته الذين أسعدهم الحظ ونهلوا من ثقافته، فإن تحدثت عنه فأنا عليم بأوصافه ومآثره.

أصله ونشأته: هو محمد بن خالد بن مصطفى بن محمد الجلبي، ولد في حمص سنة 1867 ميلادية، ونشأ في مهد العلم والأدب، ولما أينع استلفتت مواهبه البارزة أنظار علامة حمص الأكبر المرحوم الشيخ محمد المحمود الأتاسي، فضمه إلى حلقته الدراسية، وعليه تلقى علوم الأدب العربي والفقه والحديث والتفسير، فكان أحد أقطاب العلم الثقاة في عصره، وكانت ثمرة إعجابه بنجايته أن زوجه بابنته فاطمة، فأنجبت منه عدة أولاد لم يعش منهم سوى الإناث، وقد خيمت حوله سحابة من اليأس عكرت صفو حياته العائلية، إلا أنه بقي صابراً راضياً بمشيئة ربه والأمر الواقع، ثم وجد بابن شقيقه السيد ممدوح الجلبي صاحب الصوت الساحر والفنان الحمصي المعروف ضالته المنشودة فأحسن تثقيفه، فكان قرة عينه والعزاء والسلوى لقلبه الكليم.

رحلاته إلى استانبول: وسافر مرتين إلى استانبول، واتصل بالشيخ أبي الهدى الصيادي الرفاعي شيخ السلطان عبد الحميد، فاحتفى بمقدمه وتعرف خلال مدة إقامته بالعلماء والأدباء والفنانين الذين كانوا يلازمون تكيته، وكانت ملتقى الكبراء والفضلاء، أما رحلاته إلى استانبول فكانت ذات أثر كبير في مجرى حياته، فقد راقب هناك نشاط الحركة التحريرية عن كثب، ووقف على نوايا الأتراك الإفنائية نحو العرب، وما لبث أن اندمج في الحركة العربية الكبرى، فكان أحد دعائمها، وتعرف على أكثر الرجال العاملين في حقل القضية العربية أمثال الشيخ رشيد رضا صاحب مجلة المنار، والشهيد عبد الحميد الزهراوي، والشيخ أحمد نبهان الفقيه الحمصي المعروف، والسيد خالد الحكيم، والشيخ حسن الرزق أديب حماة وشاعرها وصاحب مجلة الإنسانية التي ساهمت في هذه الحركة، والشيخ أحمد الصابوني أديب حماة وخطيبها ـ رحمهم الله ـ، وغيرهم من الرجال الذين كانوا من أعلام النهضة وحرباً على الاستعمار التركي في ذلك العهد.

كان رحمه الله يستنهض الهمم لمحاربة الجهل المخيم في البلاد العربية، ومبشراً لنشر دعوة العلم بحماس ملتهب، ومن قوله في هذا المعنى:

بلادٌ عليها مهجتي تتفطر

ودمع الأسى من مقلتي يتحدر

بلاد عليها الجهل مدّ رواقه

فقامت بليل الفقر تمشى وتعثر

ومنها:

إذا قام منهم مرشد ودعاهم

لنيل المعالي سفّهوه وأنكروا

واشترك رحمه الله في مراسلة عدة صحف عربية في بيروت ودمشق والقاهرة إلى جانب اشتراكه في تحرير صحف حمص المحلية، مثل: النجاح، وضاعت الطاسة، وحط بالخرج.

لقد كان ماهراً في أسلوب نقده اللاذع وشعره الفكاهي، يمثل الوضع الراهن آنذاك، ويحمل بين طياته معان عديدة ظاهرها الفكاهة وباطنها نقد المسؤولين الذين ساءهم ذلك النقد المستتر، فصادروا الصحف وأغلقوها، ثم استبشر الناس خيراً عندما وقع الانقلاب التركي، فأصدر المترجم جريدة اسمها (التنبيه)، ولكن سرعان ما انحرف الاتحاديون عن الغاية المثلى واتضحت نواياهم نحو العرب، فلم تعمر هذه الجريدة طويلاً، وقد وجد الفقيد فرصة سانحة لبث روح الوطنية في نفوس النشء عن طريق المحاضرات والروايات المدرسية.

شعره: يعتبر الفقيد من الشعراء المجيدين، نظمه ونثره كالروض البديع، ينعش أريجه النفوس والأرواح، وفي عام 1926م سافر إلى الحجاز ليحضر المؤتمر الإسلامي الذي كان سيعقد هناك، واتصل بصديقه المرحوم خالد الحكيم مستشار الملك السعودي، وكان همه الوحيد أن يتصل بالملك السعودي لأهداف عربية سامية، وقد تسنت له المقابلة فألقى أمامه قصيدة رائعة مطلعها:

قرنت بالقول لما شئت أفعالا

وقمت ممتلئاً عزماً وآمالا

وأيد الله ما تبغيه وابتهجت

بك العلى فهي تحني الرأس إجلالا

هل مفصح يحسن التعبير عن غرض

مثل الحسام فكم بذّ أقوالا

فنونه: لقد تلقى الفقيد رحمه الله الفن مع المرحوم الحاج محمد الشاويش الفنان الحمصي المعروف من منبعه على أبي خليل القباني الفنان العبقري العظيم رحمه الله أثناء إقامته في حمص، وأخذ منه الكثير من الموشحات والألحان، كان مولعاً ومعجباً بفنون الشاعر المشهور الشيخ أمين الجندي، وسار على سنته في نظم القدود والموشحات، ويحفظ له الكثير من شعره وألحانه الرائعة، كان ذا صوت شجي جميل امتلك نواصي الفن بجميع نواحيه، فكان ملحناً قويًّا وعليماً بفنون الإيقاع والنغمات، بيته ملتقى الطبقة المثقفة من أهل العلم والفن.

أوصافه: من أبرز صفاته الصبر والتوكل والرضا بالواقع، حلو المنطق والمعشر، إذا غضب ثار كالبركان، ولكن لا يلبث أن تتبدد سحب غضبه فتبدو على محياه المهيب أصالة الحلم والرضى والصفاء، وأودعه الله قلباً رحيماً وسريرة طاهـرة، كـان عنيـداً فـي الحـق، نبيـلاً في مقاصده، كريماً بإفراط، كساباً وهاباً، لا يستهويه المدح والإطناب والإطراء.

تآليفه: كان يهوى العزلة، فلا يخرج من داره إلا نادراً ليتفرغ للتأليف والنظم والكتابة بالمواضيع التي لها علاقة بأسس النهضة العربية، وقد أخرج عدة روايات مسرحية رائعة في بلاغتها ومغزاها ومعناها طبعت بحماة بمعرفة الشاعر الكبير حسن الرزق، منها وفود العرب على كسرى، وهي مستوحاة من القصة المعروفة في كتب الأدب، والأمير محمود والزير المهلهل والخلان الوفيان والطاغية جمال باشا مع فصل واحد يمثل انسحاب الأتراك من سوريا، وقد مثلت هذه الروايات في مسارح البلاد السورية وحازت الإعجاب، وفاوضته فرقة تمثيلية مصرية وحاولت شراء رواياته لتمثيلها في المسارح المصرية، وأغرته بمبالغ كبيرة، ولكن أبت عزة نفسه كل عرض وإغراء.

كانت رواياته المسرحية أكثرها غنائية من نظمه وألحانه، وهي نوع الأوبريت، وكانت فرقة من هواة الفن والتمثيل تلازمه، وهي تضم أصحاب المواهب والأصوات الجميلة في حمص، وهذا مثال من قوله في الأوبريت الغنائي:

وطني ما زلت فيه مولعا

أفتديه من نزول المحن

أجلب الخير له والخطب إن

نابه عن كشفه لا أنثني

كيف أرض ذله أو هجره

ومن الإيمان حب الوطن

والمترجم هو الذي جمع وأخرج المعارضات الشعرية الطريفة الواقعة بين شاعري حمص وحماة الشيخ مصطفى زين الدين والشيخ محمد الهلالي رحمهما الله، وطبعها بكتاب خاص.

وفاتـه: لقـد سافـر المترجـم إلى الحجـاز لأداء فريضـة الحج، وقابل الملك السعودي، وبعد أن استطلع منه حركته الأخيرة التي انتهت بالاستيلاء على الحجاز ليكمل البحث التاريخي الذي كان يكتبه عن تاريخ نهضة العرب بعد الحرب العالمية الأولى عاجلته المنية عقب نزولة من منى، وقضى نحبه في مكة المكرمة متأثراً بإصابته بالزحار الحاد مع مرضه القديم (ذات الركب)، وذلك في يوم السبت الثاني من شهر تموز سنة 1926م، وبوفاته خسرت حمص أحد أقطابها الأعلام، وقد أفاض فضيلة العلامة الكبير الشيخ بهجة البيطار الذي تعرف عليه ورافقه في هذه الرحلة برثائه البليغ الذي نشر في جريدة الفيحاء لصاحبها المرحوم قاسم الهيماني.

أما آثاره التأليفية ـ وهي ديوانه الشعري، وتاريخ نهضة العرب، ورواياته التمثيلية، وجميع كتبه، وهي ثروة أدبية كبرى ـ فقد ضاعت بوفاته، ولم يصل إلى أهله في حمص إلا النذر اليسير، منها:

طوبى لمن بجوار الله قد نزلا

وقد أعد له جناته نزلا

ويا هنيئا لمن أسقاه سيده

في معهد القرب من كأس الشهود طلا

*  *  *

 



([1])  (أ) (1/56 ـ 58).

الأعلام