جاري التحميل

محمد سرور الصبان

الأعلام

محمد سرور الصبان([1])

معالي الشيخ محمد سرور الصبان

(1898م)

ليس من السهل تحليل العناصر التي تتكون منها عظمة هذا الرجل العجيب الفذ وسبر غورها، فهي عناصر متشعبة ونادرة عزت في البشر، وقد جرت عليه مواهب من ربه فجمعت فيه معاني الرجولة، فهو نابغة في علمه وأدبه، وعصامي جبار في تكوين حياته، ونبيل بسمو تفكيره، ومتواضع لين الجانب، وهي شيمة العظماء، وكريم محسان إسلامي عز نظيره بين المحسنين.

لقد طغى أدبه النضير على علمه الغزير، واقترن مجد أدبه بعظمة كرمه ومبراته، وهي مآثر جليلة لا يحصرها عد، وهو في سجاياه الفريدة مجموع أمة بمفرده، هذه هي بعض مآثر مصقع العصر.

مولده ونشأته:بزغ نجم المترجم الأجل في (القنفدة) في 5 ذي القعدة عام 1316ﻫ ـ آذار 1898م، وانتقلت أسرته إلى جدة سنة 1902م، وفيها تلقى علومه الأولية، ثم نزحت إلى مكة، فالتحق بمدرسة الخياط، وانصرف بعدها إلى العمل بمحل والده التجاري.

في الوظائف: وفي سنة 1917م عين في وظائف البلدية، وكان في الثامنة عشرة من عمره عندما أعلنت الثورة العربية الكبرى، ولما شكلت الحكومة السعودية عين في سنة 1924م محاسباً للبلدية، ثم انتخب عضواً، فأميناً لسر المجلس الأهلي، وكان مجلساً انتخابيًّا، انتخب فيه المترجم بإجماع الآراء.

اعتقاله: لقد استهدف للدس والوشايات في العهد السعودي الذي كان في طوره الإنشائي، فكان في عداد المعتقلين السياسيين، وقد أُفرج عنه بعد فتح جده، وعين معاوناً لأمين العاصمة.

نفيه: وفي شهر تموز عام 1927م نفي إلى الرياض بتهمة سياسية، وبقي مسجوناً (22) شهراً.

بسمة الدهر: وفي شهر مايس سنة 1928م أصدر جلالة العاهل السعودي أمره بالعفو عنه، بعد أن تحقق له إخلاصه وسمو مواهبه، فعاد بمعيته إلى الحجاز، وعمل في شركة ( القناعة)، وهي شركة مواصلات السيارات بين جدة ومكة والمدينة، وظل في أعماله الحرة زهاء ثلاث سنوات لم يشغل خلالها عملاً حكوميًّا سوى انتخابه عضواً في المؤتمر الوطني المنعقد عام 1931م.

في وزارة المالية:وفي سنة 1931م عين رئيساً لقلم التحريرات في وزارة المالية، وبرزت مواهبه الفذة فعين عام 1932م مديراً عامًّا في الوزارة، وارتقى في مناصبها فكان وكيلاً مساعداً، فمستشاراً عامًّا لها، ومنح لقب وزير مفوض من الدرجة الأولى تقديراً لإخلاصه وخبرته في تصريف الأمور، ولما ارتقى جلالة الملك سعود عرش البلاد أولاه ثقته العظمى، وعينه مستشاراً خاصًّا له، ثم أسند إليه منصب وزارة المالية ومازال فيه.

وليس لي ما أطري به مآثره النبيلة، وآثاره الجليلة، فهي أكبر من الإطراء وأعظم من الثناء، وكفى أنه مستيقن من صدق رأيه في كل موقف له علاقة بالنفع العام لوطنه، فكان عربي النزعة، سعودي الميول والاتجاهات.

آثاره الأدبية: خرج المترجم الأجل من السجن ليحمل لواء الأدب، فأسس مكتبة عربية حافلة بالمؤلفات العلمية والأدبية القيمة حملت اسمه الكريم، ومن مقالاته البليغة في مغزاها ومعناها بعنوان (لا صلاح مع الرياء)، وبه ناشد قومه نبذ الرياء والترفع عن الدنايا، والنهوض إلى المعالي، وقد كان من المنددين للعهد الهاشمي وأساليب حكمهم، لمحاربتهم العلم والأدب ونشر الثقافة في الحجاز، وفي مقدمة الصفوة المختارة من الشباب الذي ترى فيه الحكومة الهاشمية خطراً على كيانها، وأداة ساحقة لطغيانها، وعبثها بمقدرات الشعب المادية والأدبية.

وكان أول انتاجه الأدبي مؤلفه النفيس (أدب الحجاز)، وقد أصدره عام 1925م، وهو صفحة من أدب الناشئة الحجازية شعراً ونثراً، وفي عام 1926م تولى ترتيب وجمع وإصدار (المعرض)، وهو مجموعة آراء شبان الحجاز في اللغة العربية، وأصدر في نفس العام كتابه (خواطر مصرحة) وهو مجموعة مقالات في الأدب واللغة والاجتماع والنقد، وكان إصدار هذه الكتب الثلاثة آخر أعماله الأدبية في هذه الفترة من تاريخ حياته الحافل بجلائل الأعمال، فقد حالت مهام الوزارة دون تفرغه للأدب والتأليف، ومن مآثره أن كان الفضل له في نشر كتاب شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام للفاسي.

لقد حمل الصبان الأجل رسالة العلم والأدب ثلث قرن، وبنى جيلاً، وبعث نهضة ثقافية باهرة، وقد أعاد لمهد لغة الضاد سمعة الأدب الحي في الحجاز الذي خلدته الأجيال، ومهّد طريق الأدب للشباب، وله آراء بليغة في إصلاح اللغة وتوحيد برامج التعليم في البلاد العربية، وهو المشجع البارز لحركة التأليف والبعث الأدبي في بلاده.

فما السحر إلا ما حواه بيانه

وما الدر إلا ما حوته رسائله

شعره: هو شاعر مجيد ملهم، دانت القوافي لقريحته الفياضة في أسلوب عربي فصيح مكين، لقد تناول الموضوعات القومية والاجتماعية الحساسة التي يتعشقها المجتمع، ولها صلة بالآمال والأماني، فقال قصيدته الرائعة في الوطن وهو في سجنه، ويدل أسلوبه على صراحته ونبوغه واعتداده بكرامته، وقد تجمل بالصبر والتأسي، فخاطب نفسه ووطنه فقال:

أنا لا أزال شقي حبْـ

ـبُك عائماً في كل واد

زعم العوازل أنني

أسلو وأجنح للرقاد

كذبوا وحقك لست أقـ

ـدر أن أعيش بلا فؤاد

ولسوف أصبر للمصا

ئب والكوارث والبعاد

حتى أراك ممتّعا

بالعز ما بين البلاد

ونظم في سجنه قصيدته الرائعة (عاطفة نفس)، وقد فاضت قريحته، فكان البحر الزاخر يقذف كل در فاخر.

جلّ الأسى وتتابعت زفراتي

ودنى المشيب فقلت حان مماتي

فكرت ألتمس الخلاص بحيلة

أين المفر من القضاء الآتي

ويتجلى طموحه وعزيمته واعتداده بنفسه فيقول:

ويحي، أيعترض القنوط عزيمتي

والحزم من طبعي ومن عاداتي

والدهر طوعي والزمان مصادقي

والصبر درعي والثبات قناتي

وتمر بي شتى الحوادث خشعا

ويصيبها خور حيال ثباتي

يا أيها القدر الموافي إنني

بادي الضنى هلا ترى نظراتي

أمنن علي بساعة أقضي بها

حق البلاد وخذ ربيع حياتي

إن كان في الأجل المقرر فسحة

أو لا، فإنك نافذ الطعنات

مالي إليك وسيلة أرجو بها

نيل المرام، فجدت بالعبرات

ويعتبر نفسه فرد وليس بأمة، ولعمري فمغزى هذه القصيدة يدل على أنه (مجموع أمة بمفرده) فيقول:

لكنني فرد ولست بأمة

من لي بمن يصغي لحر شكاتي

من لي بشعب نابه متيقظ

ثبت الجنان وصادق العزمات

من لي بشعب عالم متنور

يسعى لهدم رذائل العادات؟

من لي بشعب باسل متحمس

حتى نقوم بأعظم النهضات

من لي بشعب لا يكل ولا يني

يسعى إلى العليا بكل ثبات

ولقد ظل في سجنه ينفث من قلمه ما يختلج في روعه من إحساس وشعور، فيخاطب الليل:

ياليل حزنك دائم

أدعوك للسلوى فتأبى

يا ليل هل لك موطن

مثلي قضى قتلاً ونهبا

شعره الوصفي: هو شاعر وصاف يرى المعاني المبتكرة تنبت في أشعاره كما تنبت الأزاهير الفواحة بالعبير، ومن أجمل فنون وصفه قصيدته (يا ليل)، وقد تسامى في الوصف وبلاغة المعاني فقال:

يا ليل صمتك راحة

للموجعين أسى وكربا

خفقت من آلامهم

ووسعتهم رفقاً وحبا

أوما ترى حدث الزما

ن أمضهم عسفاً وغلبا

يا ليل إن بسم الخليـ

ـل وسادر لهواً ولعبا

فبجنبه يبكي الشجـيْ

ـيُ، وربما لم يأت ذنبا

هذا ينعم باله

وأخوه يصلى النار غصبا

يا ليل فارو محدثا

أخبارنا غبًّا فغبا

فلنا بذلك حاجة

إن تقضها فرجت كربا

وابدأ حديثك بالأولى

عانوا من الآلام وصبا

فعسى بهم تأسو، وعلـ

لنا بذلك منه طبا

يا ليل ما للبدر يمـ

رح في السما شرقاً وغربا

يبذر فيضحك ساخراً

منا وطوراً قد تخبا

يعلو على متن السحا

ب يسوقها سرباً فسربا

أتراه يعبث كالو

ليد فليس يخشى بعد عيبا

يا ليل ما شأن الغزا

لة سيرها تيهاً وعجبا

سكرى ترنح عطفها

دلاً فلا يسطيع خبا

تخذت لها مهد السما

ء كمرقص فتدب دبا

طردت إليك بناتها

فضممتهن إليك ربا

تلك النجوم المشرقا

ت وجوهها بشراً وحبا

ياليل حزنك دائم

أدعوك للسلوى فتأبى

يا ليل هل لك موطن

مثلي قضى قتلاً ونهبا

يا ليل لو أن العزا

لة سرها قد كان غيبا

لم تفش عن مكنونها

أمراً ولو لم تأت عيبا

لغدت بنا الآمال نضـ

ـرب في الورى جمعاً وصحبا

ومن قصائده الرثائية أنه لما بلغه نعي صديقه المرحوم عمر شاكر عندما سقطت به الطائرة رثاه وهو في سجنه بقصيدة مؤثرة، منها قوله:

لا يلام الفتى إذا ما تسامى

ثم أمسى على الصعيد ركاما

هكذا الروح للسماوات تعلو

مثلما الأرض تجذب الأجساما

ليس بدعاً على الشجاع إذا أقدم

يبغي له السماك مقاما

وامتطى أصعب المراكب حتى

جرعته الأقدار موتاً زؤاما

كفراش يحوم حول لهيب

أجل ساقه إليه فحاما

أيها اللائم الغرور رويدا

فمهور العلا تكون عظاما

قد يكون الأديب قائد جيش

فترى فيه باسلاً مقداما

ويكون الجندي خدن يراع

فيحيي قصورنا والخياما

إحسانه ومبراته: لقـد تحدث المجتمـع الإسلامي عـن مآثر هـذا المحسان الأجل، وستبقى خالدة تضرب بها الأمثال، وإن القارئ ليستشف من صفحة وجهه طهارة النفس والندى، ويلمح جميع معاني رجولته من انبلاج ثغره، فعناصر مكارمه ومبراته هما قوام عظمته، وسر نجاحه، وهي مقرونة بالشجاعة والوفاء في أمانة وتقى، على أن الفضائل النادرة كالإحسان والتضحية والشرف ونبل النفس تتيح للإنسان أن يكون من أحب الناس إلى الناس، ومن أشرفهم فيهم منزلة.

ومن أبرز صفاته أنه وديع في الجود، يكتم حتى عن أصابع يده جوده، تلك اليد الكريمة التي تحسن دون غاية أو منّ، وقد تمسك بالحكم الأخير من الآية الكريمة ﴿ﱘﱙﱚﱛﱜﱝﱞ﴾، ولولا أن المعوزين العوائل المستورة، هم الذين يفشون هذا السر؛ لما علم به أحد.

والصبان المحسان هو كالشجرة على معبر الطرق، تعطي الثمر في أرض جدباء ولا تسأل، يأكل منها العابرون، وشيمته: نحن خلقنا للمكارم والمبرات.

وقد صدق الصبان بوصف نفسه فقال:

إذا همت كفي لطالب فيضها

غمرته بالإنعام والحسنات

واستمع إلى نصحه لأبناء قومه في قصيدته الحكيمة بعنوان (إلى أبناء الغد) حيث قال:

أيها الأبناء سمعاً إنني

سوف أتلو لكم ذكرى السنين

كان لي مال وجاه وندى

وسماح فوق وصف الواصفين

أجمع المال لكي أنفقه

في مواساة العباد للبائسين

فكأني حاتم في قومه

أصرف الأموال في وجه قمين

يلهج الناس بشكري دائما

ويعيشون بفعلي آمنين

غير أن الدهر عاداني

ولم أدر ماذا يبتغي مني الخؤون

ورماني بصروف قوَّضت

وأمادت ذلك الركن الركين

أخذت مالي وهدت قوتي

وحنت ظهري تباريح السنين

ثم لما علم القوم بما

كان من أمري تولوا معرضين

وانبرى البعض فأضحى قائلا

إنما هذا جزاء المسرفين

لا يبالون إذا ما أنفقوا

أجزافاً أم لمدح المادحين

أم تراث ورثوه فجأة

أم كنوز، ويح من لا يستبين

ليس همي في الذي قالوا، فما

أبعد الشك عن أهل اليقين

إنما قد ساءني أنهم

أسقطوني من عداد العاملين

ورموني بظنون تركت

بفؤادي غصة الحزن الكمين

كل ذا اليوم لأني معسر

بعد أن كنت زعيم الموسرين

نفذ الهم إلى قلبي وقد

كان لي درع من المال حصين

وبياض الشيب وشي لمتي

بأكاليل من الماس الثمين

بعدما عاركت دهري زمنا

نلت في أثنائه الفوز المبين

خلة الدهر نزلت ومضت

ولذكراها همى الدمع السخين

يا بُني أصبر ولا تيأس إذا

مسك الهم وجافاك الخدين

إن في الصبر سلاحاً واقياً

من شرور الناس والداء الدفين

في زمان أصبح المال به

سلم الخزي لبعض الفاسقين

وغدا الدينار طوعاً للأولى

بددوه في تعاطي ما يشين

وقد حلل شخصيته الأديب المعروف الأستاذ عبد الله عريف بقلم صادق بليغ، وألمع في وصفه أنه داهية عصره في تسامحه ومحاولة تقريب مناوئيه والمستائين منه بشتى الأساليب والأفانين، ويعرف كيف تنقاد إليه القلوب.

خدماته الاجتماعية: هو المؤسس لدار الإسعاف في الحجاز، وعدا عن قيامها باختصاصها الإنساني في إسعاف المرضى، فقد أصبحت أول ندوة يلتقي بها الشعراء والأدباء، ويلقي فيها أفاضل العلماء والأدباء المحاضرات المفيدة في كل أسبوع، وكانت جريدة صوت الحجاز التي سميت فيما بعد (البلاد السعودية) تنشر تلك المحاضرات، ثم تجمع وتصدر مجموعة في أجزاء سنوية.

ومن أبرز مشاريعه الخيرية الإنسانية: سعيه بإصدار طوابع بثمن القرش لتنمية مواردها، ورصده جانباً من أرباح جميع الشركات التي يرأسها باسم الفقراء.

هذا هو معالي الصبان، وزير الشعراء، وشاعر الوزراء، المفكر السياسي الداهية الذي يشع من عينيه سحر، فيه آيات الذكاء والعبقرية، هذا هو الوزير الخطير عميد الأدب وموئل الأدباء في البلاد العربية، والكاتب الصحفي البليغ، المشرف على دار الإذاعة السعودية والصحافة والحج، وشركة الطبع والنشر، وشركة مصحف مكة، ورئيس الجمعيات الخيرية والثقافية في المملكة العربية السعودية.

لقد كان الأدب هو الشرارة الأولى الذي طور حياته، وربطت بينه وبين الحياة العامة، وهو أحد العوامل التي هيات فكره ومجموع ملكاته لمصاولة الحياة والانتصار عليها.

وقد تفضل الشاعر العربي العبقري الأستاذ أنور العطار فأشاد بمواهب الصبان الأجل، فقال يصف مواهبه الأدبية:

سرور يا ريحانة البيان

يا ساحر الألفاظ والمعاني

مالك في صوغ الكلام ثان

كاللؤلؤ المنثور والمرجان

في رنَّة كرنة المثاني

ورقة كرقة الأغاني

ورنة كرنة الأماني

من ذا يجاريك ومن يداني

ولمعالي المترجم الأجل ترجمة أخرى في مؤلف (سراة للعرب) المخطوط، وفيها التفصيلات الوافية عن مواهبه العلمية.

*  *  *

 



([1])  (أ) (2/495 ـ 499).

الأعلام