جاري التحميل

محمد الشاويش

الأعلام

محمد الشاويش([1])

الفنان الكبير والمطرب السوري الأول الحاج محمد الشاويش الحمصي

ما أسرع مرور الأيام وانقضاء الأعوام كأنها ومضات برق تضيء قليلاً ثم تسرع إلى الزوال، هذه هي الحياة، قليلون هم أولئك الذين يلقون جانباً من التقدير والرعاية في حياتهم متى كانوا من ذوي المواهب الممتازة، فالفقيد المترجم رحمه الله قد لقي من العز والتكريم أينما حلت ركابه حتى هرمته الشيخوخة وكشر له الدهر عن أنيابه فحطم الضعف جسمه وعضه الفقر في أنيابه، فكان في زمرة الفنانين الذين ضرب النحس أطنابه حواليه في مرحلة حياته الأخيرة، وهوى بهذا الفنان البائس إلى الحضيض.

ويل للدهر ما أقساه، وويل للفنان من نفسه، هذه لعنة الدهر انصبت على الفنانين من القدماء والمحدثين، فكانوا ألعوبة الدهر وضحية الفاقة، والسر في الفقر واضح، فالفنانون مسرفون لا يحسبون للدهر حساباً وينفقون عن سعة وكأنهم من أصحاب الأملاك، أو سيقبضون الراتب الضخم إلى آخر العمر.

فالفقيد كان ميسور الحال، وباستطاعته أن يدخر المال للأيام السوداء، فلم يفعل ولم يتعظ بمصير غيره.

نشأته: هو المرحوم الحاج محمد بن الحاج أحمد الشاويش، ولد في حمص سنة 1848ميلادية، وكان يسكن محلة الفاخورة مع والده الذي كان مع الموسيقيين الموهوبين في الفن، فنشأ بكنفه وتلقى العلوم الدارجة في عصره، ولما شب تعاطى مهنة حياكة الأقمشة واستفاد منها، ثم تعاطى تجارة بيع التبغ والتنباك ونجح فيها بشراكة أخيه المرحوم كامل الشاويش، وكان ينفق المال عن سعة ولا يدرك قيمته عند النائبات، وهذه أكبر خطيئة ارتكبها في حياته كان لها أسوأ الأثر في مراحل أيامه الأخيرة.

سفره إلى دمشق: وسافر من حمص إلى دمشق، ونزل ضيفاً معززاً لدى المرحوم فوزي باشا العظم، وعينه ناظم باشا والي الشام في إحدى وظائف البلدية بدمشق، وبقي فيها مدة، وهنا تتجلى عظمة العبقري الخالد القباني متى عرفنا أن المترجم الفقيد كان أحد تلامذته في مسرحه التمثيلي، وكان من الممثلين الذين يشار إليهم بالبيان بطلاوة صوته وقوة فنه ونضارة شبابه، وقد اكتسب من فنون القباني الشيء الكثير من الأدوار والموشحات والأوزان حتى حلت نكبة القباني في مسرحه وسافر إلى مصر، وعاد الشاويش رحمه الله إلى وطنه حمص وتعاطى التجارة.

ولما عاد القباني من مصر بعد سنوات وأقام في حمص مدة سنة وأوجد لأولاده عملاً يعيشون منه ثم عاد إلى مصر؛ كان الشاويش خلال هذه المدة يلازم القباني كظله، وكان أحد تلامذته البارزين في الفن الموسيقي.

سفر الشاويش إلى بيروت: وقد رأى الفقيد أن أفق الحياة على ضيقه في حمص لا يساعده على البقاء فيها، فأزمع السفر إلى بيروت وهو لا يدري ماذا يعمل، وقد جمع ثروة من تجارة بيع التبغ في حمص، ثم توفق فاستأجر بناية اتخذها نزلاً في بيروت سماه (الشهباء)، فكان الحمصيون خاصة يرتادون نزله ويلقون من ترحيبه وبشاشته ما يؤانسهم، وكان سفيرهم في بيروت، وعلى يده تقضى حوائجهم، وسار موكب سعده في الحياة على غاية ما يرام، فكان موفقاً في أعماله، ودفعه حب اللهو والمجون فكان مولعاً بصيد السمك البحري، يسهر الليل بطوله مع رفاق له وهو ينشد الألحان العذبة حتى إذا شق الصبح فجره عاد إلى نزله ونام، ثم جدد في المساء جلسات الصفاء والانشراح.

التفاف أهل الفن حوله: وكان أهل الفن إذا حضروا من مصر إلى بيروت نزلوا عنده، فكانت حلقات الفن تنعقد برئاسته، فتضم المرحوم محيي الدين بعيون عازف البزق الشهير، والفنان ألكسي اللاذقاني على العود، وإميل انجيل على القانون، وادمون مجاعص على الكمان، والحاج نجيب البربير على الناي، وقاسم يموت ضابط الإيقاع، ومحمد اللاذقي مطرب موشحات أندلسية وأدوار، وكان الحاج محمد الشاويش وهو رئيس النادي الموسيقي الشرقي في بيروت عام 1921م يقوم بتكوين المطربين المصريين، ودامت هذه الوضعية سائرة مدة سنين حتى انفرط عقدهم بوفاة أكثرهم وعودة الفقيد إلى حمص.

لقد جمع الفنان المترجم ثروة من أتعابه، إلا أنه مسرف متلاف مغلوب على أمره، فلم يدخر أي مبلغ يساعده في أيام محنته ومرضه الذي توفي به.

فنه: كان صوته جميلاً رائعاً، ومع ضعفه فهو أقدر الفنانين في علم النعمة، وليس له ند في الإيقاع وفي تحليل الأنغام وتصويرها، وكان حافظاً كثيراً من الأدوار والموشحات القديمة التي تبهر العقول وتصغي لسماعها آذان المحبين لما فيها من فنون، ولما برزت تلاحين الشيخ سيد درويش حفظها بإتقان.

اجتماعه بالفنان البطش: وقد أعلمني المرحوم الفنان الحاج عمر البطش أن الفقيد كان حضر إلى حلب للتعرف عليه، وقد زاره في بيته واستضافه ودارت بينهما الأحاديث الفنية، ووقف من البطش على الناحية الفنية التي اقتضى سفره من أجلها إلى حلب، وأشار البطش إلى أن الشاويش قد لحن موشح النهاوند من وزن السماعي الدارج، وهو:

ليت شعري أي قلب ملكوا

وفؤادي لو درى

أي شعب سلكوا

أما القصائد التي كان ينشدها فقد كانت من تلحينه الخاص ولا حصر لها شأن كل ملحن يختار القصائد التي تلذ له فيلحنها وينشدها، وكان إذا حضر جلسة موسيقية في حمص ترأس المغنى ومعه أكابر المنشدين كالمرحومين عبد الخالق عبارة والشيخ راغب الملوحي وخالد القصير ونصري عجاج وغيرهم.

سفره إلى مصر: وقد سافر إلى مصر، وطابت له الإقامة فيها ضيفاً عند جماعة من الحمصيين، وتعرف خلالها على أهل الفن وأعجبوا بفنه وذكائه وخفة روحه، وكان طراز مغناه الشامي يؤثر في النفوس ويلاقي قبولاً حسناً بين فناني مصر، وتعرف على المرحوم الثري المشهور الحاج سعد الله حلابو، فاستضافه وأكرم مثواه.

سفره إلى استانبول: وسافر إلى استانبول وأقام فيها مدة طويلة، فكان أحد المنشدين البارزين في تكية المرحوم الشيخ أبي الهدى الصيادي الرفاعي، وكان أينما حل يأخذ حظه من الفن، وقد قضى عمره غاوياً لم يحترف مهنة الغناء.

واكتسب خلال مدة إقامته في استانبول من فنون الغناء التركي، فكان يمزجه بألحانه العربية فيزيدها روعة وفتنة، ثم عاد إلى بيروت، وفيها تلالأ مجده الفني باعتباره رئيس النادي الموسيقي الشرقي.

صفاته: كان جميل المحيا مهيباً محبوباً خفيف الروح وفيًّا صفيًّا متواضعاً مفرطاً في الذكاء، فلما حضر شاه العجم كلفته الهيئات الرسمية أن يلقي بعض أبيات من الشعر الفارسي، فحفظها وأنشدها له ونالت الاستحسان. كان يجب أن يرى تمجيد الناس له ويسمع إشادتهم بذكر فنونه، وهو بعض ما يجب أن يقول فيه عشاق فنه، لقد كان عزيز النفس، يقدس المبادئ، ولا يحفل بالمال، وإذا صادف قلباً ذا شجون؛ أثاره وقضى عليه دون شفقة.

ومن نوادره أن الفنان المصري المرحوم عبد الحي حلمي لما زار بيروت نزل عند الفقيد، وتهافت الناس لدعوته وسماع فنه، وصدف أن دعاه الوجيه عارف النعماني التاجر البيروتي إلى نزهة على ضفاف نهر الكلب، وبالرغم من صفاء الجلسة وبهائها فإن التجلي لم يخيم عليها ولم يغن طيلة يومه، ولما عاد إلى بيروت صادفهم في الطريق غلام يوناني مستخدم في محل النعماني، فاستظرفه عبد الحي حلمي وطلب منهم أن يعرجوا على بيت صاحب الدعوة، فغنى حتى مطلع الفجر، ثم قال للداعين مازحاً، دعوتمونا إلى نزهة ناشفة امتازت بما يقبض الصدور من منظر اللحى والشوارب، ولم يخطر ببالكم أننا نحن أهل الفن نعشق الجمال أيان ما كان.

دبيب الشيخوخة في جسمه: وتبدلت الأحوال في بيروت دون أن يسبق ذلك أي نذير، فباع محله الذي جمع منه ثروة طائلة وبددها مع ولده، فعاد إلى حمص، وقد طافت برأس هذا الفنان ذكريات أليمة مضنية، وانتابته أفكار أشد حلكة من ليل الصحراء، ومرت الأيام فبدأ الجرح يندمل وأخذت يد النسيان تمحو اللوعة وتطفئ نيران الحزن والأسى، فكانت روح اللهو والمجنون تسري في روح هذا الشيخ الهرم بالرغم من نذير مرضه.

من منا ينسى الشاويش وهو يهتز عند غنائه، فتنقلب تلك الشيخوخة المحطمة شباباً مطرباً وترقص معه الجوامد.

لقد كان ذا قدرة على اجتذاب سامعيه، وهو بحق كبير المطربين الذي لا يمحو ذكراه الزمن.

مرضه: وفي أواخر عمره اعتراه مرض الشيخوخة، فأصيب بالشلل وخلل في النطق، فكان يحن إلى ذكرياته وماضيه المملوء بالصفا والمسرات فلا يستطيع أن يتكلم، فكانت عيونه تعبر عن شجونه ومآسيه، فيضيق صدره بخاطراته وتخنقه العبرات.

لقد كمن الموت له فكان يقاوم الألم ويغالب ضعف الجسم، وحط عليه الدهر بأثقاله وانتابه المرض الذي لا يشفق ولا يرحم، وثقلت على منكبه وطأة السنين، ولكن القضاء قد حم والأجل قد دنا، وفي اليوم الثاني والعشرين من شهر كانون الثاني سنة 1944م فاضت روحه، وشيع جثمانه باحتفال مهيب، وكان المشيعون يلهجون بالثناء على صفحة طويت من الخلق الكريم والنبل الأصيل، ودفن بين الذكريات والزفرات، وقد ورث فنه ابن أخيه المطرب السيد عبد الواحد الشاويش رحمه الله.

*  *  *

 



([1])  (أ) (1/75 ـ 76).

الأعلام