جاري التحميل

محمد صالح الجذبة

الأعلام

محمد صالح الجذبة([1])
الشاعر الأديب والفنان الركن الشيخ صالح الجذبة

أصله ونشأته: هو المرحوم الشيخ محمد صالح بن أحمد بن محمد بن صالح ابن محمد بن عمر بن عبد الله بن عمر بن درويش، ولد بحي البياضة بحلب في شهر محرم سنة 1267ﻫ ـ 1858م وأصل الأسرة من البلاد المغربية، نزحت منها في غضون القرن العاشر الهجري، وإن درويش المومأ إليه هو الجد السابع لصاحب هذه الترجمة، انحدرت من سلالة الحسين بن علي رضي الله عنهما وذلك بموجب وثائق وإجازات محفوظة، وحازت العائلة لقب (الجذبة) في عهد الشيخ محمد الجد الثالث لمكانته العالية في العلم والمعرفة، وذلك بعد أن أقبل على الله تعالى باللسان الذاكر والقلب الشاكر والعمل الصالح، وقد قال الشيخ البوني في منظومته لأسماء الله الحسنى:

تباركت يا الله يا دائم العطا

أقمنا على التقوى وبالرشد قوِّمنا

وقال:

ألا جد علينا يا ودود بجذبة

بها نلحق الأقوام من سار قبلنا

وبالطبع فإن هذه الجذبة تختلف في أسرارها عن الجذبة (الحمصية) وطابعها الدهري الخالد.

وقد أضاف والده لقب (نبيه) إلى اسمه تفاؤلاً بالنباهة والوعي من جهة، ودلالة على تاريخ ولادته إذا ما جمعت حروف هذا اللقب بالجمل الصغير (سنة 67) من جهة ثانية.

نشأ المترجم بكنف والده وتربى تربية دينية، وبعد أن حفظ القرآن الكريم وأجاد القراءة والكتابة ومبادئ الحساب، أكب على تحصيل العلوم الدينية والعقلية والنقلية وتبحر بها، وتلقى بعض العلوم عن والده الذي كان مدرساً في المدرستين الشعبانية والأحمدية، وقائماً بأمانة الفتوى بحلب وخطابة جامعها الأموي الكبير، وأخذ العلم عن علماء أجلاء، منهم الشيخ أحمد الكواكبي والد المرحوم الشيخ عبد الرحمن الكواكبي الكاتب الشهير والسياسي القدير.

حياته الفنية: وقد رأى المترجم أن لابد له من سلوك طريق السادة الصوفية والسير على منهاج آبائه، فأخذ الطريقة الخلوتية والقادرية والنقشبندية من مشايخها وأجازوه، فصار يلازم زاوية عائلة الجذبة الواقعة في مسجد الخواجة سعد الله، ويؤم زوايا وتكايا أخرى بحلب، ويقوم بتلاوة الأوراد والأذكار، وقد أخذ عن المرحوم أحمد العلبي الفنان الكبير فصول الأذكار للطرق وإيقاعها، وأتقن كل فصل مع ما يتبعه باللفظة والنشيد والحركة والركزةعملاً قد توفرت فيه الأصول.

وأخذ عن الشيخ حسن الوراق الحلبي أحد أئمة الفن وخليفة (البشنك) الفن الموسيقي وعلم النغمة والأوزان، ودرس على المرحوم السيد محمد رحمون الأوسي العالم والفنان الشهير علم الأصول ورقص السماح وأصبح المترجم فناناً ألمعيًّا وأستاذاً كبيراً محيطاً في الأصول والضروب. لقد هذَّب رحمه الله وثقف أناساً كثيرين من حلبيين وغيرهم، فكانت لهم الشهرة والمكانة في عالم الفن، فمن تلاميذه الحلبيين السادة عمر البطش الفنان الأشهر ومحمد جنيد ومحمد طيفور رحمهم الله وعبد الوهاب سيفي وصبحي الحريري وغيرهم كثير ومن تلامذته بدمشق الأستاذ الشيخ مصطفى الفرا وعلي الأسطة وسليم الحنفي ومحمد السكري رحمهم الله.

مؤلفاته الفنية: ألف كتاباً صفحاته سبع وسبعون، وقد أدرجت فيه فصول الأذكار القادرية والرفاعية والنقشبندية، وقد وضح فيه ما يحتاجه كل فصل من الذكر والحركة والنشيد والأصول، وألف سفينة الحقيقة في علم السماح والموسيقى وهو كتاب ضخم جدًّا تزيد صفحاته على ألف وأربعمئة. استوعب في هذا الكتاب كافة الأنغام والأصول مع إيراد الشواهد عليها من التواشيح والقدود بشكل جامع مانع، كما فصل فيه كيفية القيام بالسماح تجاه كل توشيح وقدٍّ بصورة منقطعة النظير، ولم يقتصر على هذا أو ذاك، بل عمد إلى وضع ضوابط وتصاميم ورسوم يسهل معها التعلم بأية آلة من آلات الطرب والإحاطة بكل نغم من الأنغام (الآباء السبعة وفروعها) وذكر لأكثر التواشيح والقدود إيقاعاً موسيقيًّا (نوطة)، وقد ظل الكتاب محفوظاً في بيت أخيه الأستاذ الشيخ زين العابدين الجذبة منذ وفاة عم والده إلى سنة 1927م وبعد مراجعات ووساطات اشتراه منه الشيخ إبراهيم المدني، وكان ابن أخيه هذا حديث السن إذ ذاك لا يعرف قدر الكتاب الذي باعه بثمن بخس. وعسى أن تنشر محتويات هذا الكتاب النفيس بين المجتمع. وألف كتاب (نزهة الحقيقة في التفنن والأدب) يقع في (777) صحيفة، وبينه وبين كشكول العلامة المرحوم الشيخ بهاء الدين العاملي وجه شبه، لأنه حوى منظومات بموضوعات شتى مرتبة في قوافيها على الأحرف الهجائية، وانطوى علـى منشـورات يحتـاج إليها الكاتب، وعلى قصص وفكاهات وألغاز وأحاجي (تحاذير)، وأبحاث في الفلك وعلم الرمل، ووصفات طبية وأمثال عربية للتسلية، وغير ذلك.

شعره وموشحاته: كان رحمه الله أديباً شاعراً وملحناً موفقاً، ومن نظمه البديع هذا الموشح المشهور وهو من نغمة البياتي نوى وزنه (جفته):

جرد العضب المرهف من مقلتيه

ظبي فتان أهيف روحي بيديه

حاز كل الألطاف بالأعطاف

إذا كان يوافي يالهفي عليه

والسوالف كالعقرب سم يلعب

يسطو على من يقرب ورد خديه

حبيبي بين الغلمان شبه الندمان

فرَّ من جنة رضوان يالهفي عليه

من لمى ذاك العذب ذاب قلبي

يا ما يقاسي قلبي لهفاً عليه

وقد اشتهر هذا الموشح بروعة لحنه بين راقصي السماح، وله موشحات صوفية كثيرة منها موشح صوفي من مقام البياتي نوى وزنه نيم روان مدح به جده الشيخ محمد الجذبة مفتي حلب ورئيس مجلس الشورى حيث قال:

(يا إلهي بالنبي خير الأنام

اغفر وارحم شيخنا الجذبة الهمام)

علاقته الفنية بأبي خليل القباني: وتعرف إثر حضوره لدمشق بالمرحوم أبي خليل القباني الفنان العبقري الخالد فدخل في فرقته التمثيلية وصار يدرب أفرادها أصول رقص السماح وأوزانه، وأكد لي الذين عاشروه أنه لما وقعت نكبة القباني المشهورة وانتهب مسرحه وسافر إلى مصر مع أفراد فرقته بكى المترجم رحمه الله على هذا المصير المؤلم وعلى خسارة المجتمع لروائع فنونه، وكان يتذكر عهده ويشيد بعبقريته وفصاحته وقوة ألحانه وكرم أخلاقه وعظمة شخصيته ويقول: (لن تخلق الدنيا بعده مثله).

كان الفقيد ذا صوت عادي وضابطاً للإيقاع بالضرب على الرق بشكل باهر، كثير الاختلاط بفناني مصر الذين كانوا يفدون إلى دمشق وحلب ويعجبون بفنونه ويقدرون مواهبه وقوة ذاكرته، وقد اشتهر أمره في البلاد العربية فكان مرجعاً كبيراً للفن والفنانين.

أوصافه ووظائفه: كان رحمـه الله خفيف الروح ذكـي الطبـع فكه المحضرلا يمل مجلسه من كثرة نوادره فصيح اللسان، حاضر البديهة، شغوفاً بالفن والعلم، مربوع القامة، طويل الوجه في بشرة بيضاء، معتدل الصحة، أشهل العينين، في خده حبة (داغة) حلبية، يرتدي كسوة العلماء. عاش حياة خاصة بعيداً عن تبعات الحياة فلم يتزوج، وأحب الفنانين إلى قلبه وأفهمهم لمشربه هو الفنان المرحوم الشيخ أحمد شريف وهو صنوه بقوة الفن وعلم رقص السماح، وقد تعاهدا أن يقضيا الحياة في حرية وانطلاق ومتعة وحبور فلم يتزوجا، وعاشا على وئام ووفاق إلى أن فرق الموت بينهما، وفي سنة 1320ﻫ عين إماماً في العسكرية وتجول في البلاد العربية والتركية وتتلمذ عليه الكثيرون ممن يحب الفن ويألف الأنغام.

وفي سنة 1336ﻫ أحيل إلى التقاعد وخلص من الأسفار وآلام الاغتراب ورجع إلى حلب.

وفاته: وبعد عمر طويل قضاه بالعز والبهجة اعتراه مرض الفالج ودام مدة أسبوع، وفي يوم الأربعاء 16 ربيع الأول سنة 1341ﻫ الموافق 6 كانون الأول سنة 1922م انتقل إلى رحمه ربه ودفن بمقبرة أجداده (تربة الحجاج) قرب محلة قاضي عسكر في الجهة الشرقية من حلب.

*  *  *

 



([1] (أ) (1/ 322 ـ 324).

الأعلام