جاري التحميل

محمد صالح قنباز

الأعلام

محمد صالح قنباز([1])

شهيد النجدة الإنسانية المرحوم الدكتور محمد صالح قنباز الحموي

من الناس من يتصدر للزعامة وهم ليسوا أهلاً لها، فلا تدوم زعامتهم إلا حينما قد لا تتجاوز مدى حياتهم مهما اشتد بطشهم وعظم شأنهم، ومنهم من تخلذ زعامتهم وتظل أسماؤهم رمزاً إلى الوطنية الصحيحة والإنسانية المثالية النادرة، ومن الغرابة مارشح في نفوس الجهلة من أن الزعامة لا تأتي إلا عن طريق الغناء والثراء والوظائف الكبيرة والتقاليد القديمة، غير أن الفقيد العظيم حطّم هذه القيود كلها، وبنى أمثولة الزعامة، فأتته عن طريق العلم، فقد بنى مجداً أساسه الأخلاق وهيكله العلم وتاجه الفضيلة، وبزغت شمس زعامته في محيط حماة فانهارت أمامهاالزعامات المزيفة والتقاليد البالية وأيقظت النيام، ولو امتد أجله لشاهدنا من مآثر أعماله ما يجعل زعامة العلم الحقيقي فوق كل زعامة على الإطلاق.

أصله ونشأته: هو المرحوم محمد صالح بن السيد محمود بن صالح قنباز، وأمه من بني المطر، وكلا الأسرتين معروفتين بالخلق الحسن والتمسك بأهداب الدين والفضائل.

بزغ نجم الفقيد في حماة سنة 1305ﻫ ـ 1887م، ولما أكمل الخامسة تولى خاله الشيخ عبد القادر المطر تعليمه القرآن العظيم، تلقى دراسته في مدرسة مفتي حماة وشيخها الجليل الشيخ سعيد النعسان، ثم انتقل إلى المدرسة الإعدادية، وتجلت نجابته وذكاؤه، فكان يحافظ على الدرجة الأولى في مراحل دراسته، وتلقى في أوقات فراغه دروس العربية والأدب والقصة في مساجد حماة الشهيرة بحلقاتها العلمية.

وفي سنة 1901م رحل إلى دمشق وأكمل تحصيله الثانوي في مدرسة (عنبر)، واتسعت ملكاته العقلية، فكان محط أنظار أساتذته، فعني بأمره مدير المعارف آنذاك، وقد ذكر رفيقه في الدراسة القانوني الضليع الأستاذ سعيد حيدر في المجلد الثاني من مجلة الزهراء شيئاً عنه بهذه المناسبة، فقال: إن كتاب حساب المثلثات المستوية الذي كان يستعمل في مدرستنا كان ناقصاً ثلاثة أسطر، فاستطاع صالح قنباز أن يكمل الأسطر الناقصة بمجرد إمعانه النظر في الشكل الهندسي، فأدهش بذلك أساتذته.

وقد ترجمه العالم المحقق السيد محب الدين الخطيب في مجلة الزهراء، فقال ما خلاصته: إن الشهيد صالح قنباز هو من الطبقة الأولى من رجال الأمة العربية علماً وفضيلة واندفاعاً في سبيل الإصلاح.

وبعد أن أتم الفقيد دراسته الثانوية التحق بالمعهد الطبي بدمشق، ثم في المعهد الطبي بالأستانة، وأمضى فيه السنة الثانية، فكان قطب الرحى بين شباب العرب، ولكن ظروفه الخاصة لم تساعده على إتمام الدراسة فيه، فعاد إلى دمشق وأكمل الدراسة في المعهد الطبي بدمشق، وكان محافظاً على الأولية بين زملائه، وتخرج طبيباً سنة 1910م، وتخصص بالأمراض الباطنية، وعاد إلى حماة وقد ذاع صيته ولمع نجم سعده.

مراحل حياته العلمية والسياسة: بعد أن انتقل الفقيد الشهيد من مدرسة العلم إلى ميدان العمل شرع بتنفيذ أمانيه، فوقف مواهبه على المصلحة العامة وعاش لقومه لا لنفسه، فما عرف الحمويون مشروعاً نافعاً تمّ في وطنهم ولا حركة مباركة قاموا بها إلا كان هو رأسها وقائدها الحكيم.

وقد تطوع لتدريس العلوم الطبيعية في مدرسة حماة الثانوية الأميرية، وهذا ما كانت تصبوا إليه نفسه، لاعتقاده أن الانقلاب في الأمم لا يأتي إلا على أيدي المعلمين، فألقى في روع تلاميذه روح الوطنية وحب القومية، ونفخ فيهم هذه الروح الطبية، وعلى أثر الاتفاق بين العرب والترك أثناء انعقاد المؤتمر العربي الأول في باريس صدر الأمر بتدريس العلوم بلغة البلاد، فكان هذا الانقلاب أول ظفر ناله في جهاد كان يسعى إليه.

نفيه إلى الأناضول: وفي سنة 1909م قصد الأستانة، وهناك نزل في المنتدى الأدبي وبقي ثلاثة أشهر يشتغل مع رئيسه الشهيد عبد الكريم الخليل ورفاقه بالقضية الوطنية، ثم رجع إلى حماة، ولما أعلن النفير العام عين الشهيد الفقيد برتبة رئيس في الجيش، ثم نقل طبيباً إلى مستشفى معان، ومنها إلى قرية الفرندل فالعقبـة، وزار المدينـة المنـورة، ولـه قصيـدة لـدى وقوفـه فـي أعتـاب الرسول الأعظم ﷺ، ثم نقل إلى القدس وأصيب فيها بالحمى النمشية التي كانت متفشية في الجيش التركي، وقد تلقى أمر نفيه من الطاغية جمال باشا وهو في دور النقاهة إلى مدينة سيوري حصار في الأناضول، وسيق إليها فوراً مع كثير من إخوانه الأحرارالمنفيين، واجتمع في بلدة في سيوري حصار بإخوة مؤلف هذا السفر وأبناء عمه، وعين طبيباً للحكومة فيها، وبقي حتى نهاية الحرب العالمية الأولى حيث عاد إلى وطنه حماة، فعين طبيباً لحكومة حماة، ثم آثر العمل الحر فاستقال منها.

خدماته الاجتماعية: لقد أسس مع فريق من إخوانه النادي العربي، وانتخب الفقيد رئيساً له، وله القدح المعلى في أحداث مدرسة (دار العلم والتربية)، وانتخب رئيساً لعمدتها، فكانت سؤرة الإشعاع العلمي والوطني في حماة، ولها الفضل الأكبر بمقاومة الاستعمار، وقد درّس فيها الطبيعيات والعربية والتفسير، واشتركمع رفاقه الأمناء بشراء قصر العظم الأثري بحماة، وانتقلت إليه المدرسة، وانتخب لعضوية المجلس البلدي فخدم بلده وحقق لها مشاريع عمرانية كثيرة، ثم استقال منها وانتخب عضواً في لجنة توجيه الجهات في أوقاف حماة.

وفي 4 نيسان 1923م انتخب عضواً للمجمع العلمي العربي بدمشق بإجماع الآراء، وفي 4 تشرين الثاني سنة 1924م قررت الجمعية الآسيوية في باريسانتخابه عضواً عاملاً في هيئتها المركزية، ونشر ذلك في مجلتها، وكان ينتخب عضواً في مجلس المعارف المحلي في كل دورة، وذلك لاختصاصه بفن التعليم والتربية وطول باعه في علم النفس.

سفره إلى باريس: وفي شهر تشرين الأول سنة 1923م أزمع الترحال إلى ديار الغرب للبحث في المكتشفات الطبية الحديثة ومشاهدة دور العلم والآثار القيمة فيها، وأقام الشباب الحموي له حفلة تكريم ووداع، فأشار الأستاذ الشيخ طاهر النعسان إلى مناقبه وآثاره بقصيدة مطلعها:

هو العلم لا يعطى الفتى منه جانبا

إذا هو لم يصحب من العزم صاحبا

ومن ظن أن العلم يعطي قياده

لوانٍ ومكسال فقد ظن كاذبا

وقد مكث في باريس مدة عام صرفه في البحث والتنقيب العلمي.

سفره إلى الحجاز: وسافر من باريس إلى مصر وتعرف إلى عظمائها وعلمائها وزار معاهدها ومكاتبها، واستشرف على آثارها، ثم واصل سفره إلى الحجاز فأدى فريضة الحج، واجتمع بجلالة المرحوم الملك حسين الأول، ولقي منه الحفاوة والترحيب، ثم قفل عائداً إلى حماة.

آثاره: كان رحمه الله من أحرص الناس على السعي لاستقلال أمته ووطنه بالطرق المشروعة ذا عقيدة واضحة في السياسة القومية العربية، وكان من رجالات الأدب الذين أسسوا النادي الأدبي في حماة وحزب الشعب، وكتب كثيراً في الصحف والمجلات في شتى المواضيع، ومن آثاره العلمية والأدبية ترجمته عن الفرنسية كتاب الدرس الابتدائي في الفلسفة مع نظريات تاريخها تأليف (إميل نواراك) ناظر مجمع بيجون، وألف عدة كتب في العلوم الطبيعية وحفظ الصحة والنباتات، ودروس الأشياء والاقتصاد للصفوف الثانوية، ورسالة في أصول تعليم (ألف باء)، وله رسالة في تجويد القراءة، وله في علم الفرائض كتاب الحق بآخره بحث في أصول تقسيم الأراضي حسب القوانين الموضوعة أخيراً، ولعل كتابه هذا من أجود ما صنّف في هذا العلم، وكلها لم تطبع.

وقد بدأ في المدة الأخيرة من حياته بترجمة كتاب المستشرق المجري (غولدزيهر) في الإسلام وشريعته، غير أنه لم يترجم منه إلا أبحاثاً قليلة.

وله ولع كبير بتاريخ أمته، حتى إنه عوّل على البحث في تاريخ الطب العربي الإسلامي والكتابة بذلك مفصلاً في المدة الأخيرة غير أن المنية عاجلته ولما يتم له ما يريد.

وله محاضرات قيمة في الهجرة النبوية والسيرة المحمدية والتاريخ العربي، وآراء ثاقبة، ومباحثات وخطابات في أصول التربية والتعليم.

شعره ونثره: كان رحمه الله إذا تكلم أبهج القلوب، كأنما يوحى إليه في النظم والنثر، وله ولع بنظم القوافي، وكان شاعراً عبقريًّا، ومع هذا فله منظومات شعرية في مواضيع شتى، منها تشطيره هذه الأبيات، والأصل لشاعر العبقرية والفن المرحوم ملا عثمان الموصلي العراقي:

وفي الكأس من ماء الخدود عصارة

وروح بها ممزوجة قد تشابها

مطهرة لا إثم فيها وطالما

أباح الهوى للعاشقين شرابها

وما كنت أدري قبلها أن وجنة

ترقرق منها الحسن حتى أرابها

وروحاً أتت من أمر ربي أذانها

تنفس فيها عاشق فأذابها

وقد عنى الفقيد في المدة الأخيرة بنظم الأناشيد الوطنية.

أوصافه: كان رحمه الله فقيهاً متديناً متواضعاً، ويكره الظهور والدعاية، يتوخى الحقيقة ويسعى لها ويجاهد في سبيلها، عاش عزباً، وكان كلما عرض عليه الزواج يأباه، غير أنه في المدة الأخيرة صمم على القران وأباح لأهله البحث عن فتاة علم وأدب ودين، ولكن المنية عاجلته، فقضى نحبه دون بلوغ أمنيته.

وفاته: ولما نشبت الثورة في حماة مساء الأحد في 17 ربيع الأول 1344ﻫ و4 تشرين الأول 1925م؛ كان رحمه الله طول تلك الليلة يضمد جراح من أصيب، ولم ترقد له عين، وفي صباح يوم الإثنين خاطر بنفسه وطفق يعود الجرحى في بيوتهم، ويغدو ويروح تحت وابل الرصاص، ثم عاد عصر يوم الإثنين لبيته الكائن في حي الدباغة الملاصق لتل صفرون، ولم يكد يلبث فيه فترة حتى طوّق الجنود الفرنسيون التل المذكور وأخذوا يطلقون الرصاص على المارة وكل شخص أو شبح يتراءى لهم، وبينما كان يفكر بالحالة الحاضرة إذ سمع صراخ أحد ذوي قرباه أمام بيته يستنجد طالباً رفع ولده الذي أصيب برصاصة أصابت منه مقتلاً، فهب مجيباً داعي الواجب الإنساني والطبي، ولكنه لم يكد يطل برأسه من باب بيته حتى سقط على الأرض مصاباً برصاصتين برأسه من يد فرنسي كان يرقب من يخرج من هذا البيت، فقضى نحبه لحينه، وبقيت جثته مطروحة على الأرض دون أن يجسر أحد على الدنو منها؛ لأن الجنود ترقب كل شبح لترميه بوابل الرصاص، ولما خفت الوطأة وأظلم الليل أدخله أهله إلى بيته، وفي الصباح لم يتمكن أحد من الرجال أن يصل إلى بيته ليحمله إلى مقر دفنه، فحملته النساء إلى زاوية آل الشرابي القريبة من بيت الفقيد فدفن بها في ثيابه المضرجة بالدماء، ولم يشهد تشييع جنازته أحد من أصدقائه وأحبابه؛ لأنهم لا يعلمون عنه شيئاً، وفي تلك الأثناء هجم الجنود على بيت الفقيد الشهيد وحطموا الأبواب وكسروا النوافذ والصناديق والمكتبات، بعد أن ترك البيت أهله فراراً بحياتهم مدة خمسة أيام، ونهبوا كتبه ومخطوطاته النفيسة ومجموعاته التي قضى حياته في جمعها وتأليفها وتدوينها، ولما هدأت الحالة نقل جثمان الفقيد صباح يوم الخميس 8 تشرين الأول 1925م إلى مرقده الأبدي في مقبرة باب البلد، وهكذا طوى الردى أكرم روح عربية نبيلة.

*  *  *

 



([1])  (أ) (1/342 ـ 344).

الأعلام