جاري التحميل

محمد الفراتي

الأعلام

محمد الفراتي([1])

عبقرية الشاعر محمد الفراتي الخالدة

هو شاعر إذا تجمع البؤس والشقاء في حياة الناس يرى أشقاهم، هو شاعر وعالم سعد المجتمع بعبقريته ونبوغه، وشقي هو بالمجتمع، هو شاعر أمة صب الدهر عليه البؤس والحرمان، فما لانت قناته ولا ونى ولا استحذى في كرامته، هو شاعر أبي تحدى بمواهبه الحياة، فاغتصب عبقريته من الدهر اغتصاباً، دون دعاية ولا نصير.

ذلك هو الشاعر العربي العبقري الأستاذ محمد الفراتي، فإن تحدثت عنه فهيهات أن تحيط مداركي بعناصر أوصافه، رغم ملازمتي له كظله سنين في دير الزور خلال مدة وجودي موظفاً في المحافظة، فقد كنت بعيداً عن الأهل، لا مؤنس لي ولا سلوان إلا روح هذا الشاعر الفذة، فكان رحمة ونعمة من الله وقرة أعين المجتمع، وقد اكتسبت من ثمرات علومه وأدبه ما أعتز به، وأرى وفاء لفضله أن أطلق يراعي بمآثر نبوغه.

أصله ونشأته: ولد هذا الشاعر الكبير بمدينة دير الزور سنة 1890م، وتلقى تعليمه الأدبي بها، ورحل عنها إلى مدينة حلب لطلب العلم الديني سنة 1908م، وبقي فيها سنتين تلقى العلم عن مشايخها المعدودين في ذلك العصر، أمثال: الزرقا، والغزي، والزعيم، وطلس، ثم رحل بعدها إلى مصر فانتسب إلى الأزهر وتخرج منه، وقد تبحر في العلوم العقلية والنقلية والاجتماعية والفلكية.

التحاقه بالثورة العربية: يعتبر الشاعر الفراتي من فرسان الثورة العربية البارزين، فقد حارب بسيفين: المهند الصارم، واليراع البتار، وظل يجيش المرحوم فيصل بن الحسين إلى أن سقطت دمشق بيد العرب، ثم عاد إلى بلده.

في خدمة المعارف: وبعد الاحتلال الفرنسي عين أستاذاً لتدريس اللغة العربية في دير الزور، فألهب طلابه بالحماس الوطني، فلم يرق ذلك للمستعمرين، فنحوه عن التعليم عند نشوب الثورة السورية الكبرى سنة 1925م بحجة تدخله بالأمور السياسية وعدم إخلاصه للانتداب الفرنسي.

نكبته: ورأى المستعمرون في وجوده بدير الزور خطراً اجتماعيًّا كبيراً، فقد كان أينما حل وسار تلاحقه الأعين، وأصبح كشوكة دامية في حلوقهم، وحاولوا إيذاءه، ففر بنفسه إلى العراق ثم إلى البحرين، ولم يرجع إلى دير الزور إلا في سنة 1930م حيث استقرت الأمور.

في دمشق: وحل قبل سفره إلى البحرين بدمشق، وراجع وزارة المالية لصرف تعويض التسريح، فضاع بين المناضد والمحابر حتى يئس من إكمال معاملة الصرف، فهجا وزارة المالية بقصيدة طويلة، منها قوله ـ وهو بيت القصيد ـ:

تمشي المصالح في أقلام دولتنا

مشي الخنافس في جزٍّ من الصوف

وغاظ هذا الشاعر الوطني أن يرى أناساً استخذت نفوسهم فساروا في ركاب المستعمرين يدسون ويفترون على أبناء وطنهم، فكانت قصائده أكبر زاجر للحد من نشاطهم، وازدادوا وقاحة وغيًّا إذ صاروا يطعنون بدير الزور على مسمع من أهلها، وهذه بعض أبيات من قصيدة طويلة نظمها، منها قوله:

من جاء بالبيك من فردوس غوطته

فبالفرات (ابن سوق الخيل) مظلوم

منها:

فالدير عند أناس لا خلاق لهم

كخبز حوران مأكول ومذموم

فالروض للبلبل الغرّيد مرتبع

وقد تحلّ به الغربان والبوم

شعره: هو شاعر ساحر بديباجته المشرقة، امتاز بقوتها وبلاغتها، وفي دواوينه قصائد كثيرة في الحكم والأخلاق، وهذه بعض أبيات خريدة نظمها تتجلى فيها روعة المعاني:

من ترى ذلك الشقي المعنى

من براه السقام فهو طليح

نام ليل الخلي عنه فأمسى

وهو مثل الخلال لولا الروح

فيه من ذي القروح أبين وصف

فبجفنيه والفؤاد قروح

عاشق وامق شريد طريد

مستهام مروع مجروح

هائم بالخيال في كل واد

فهو يغدو عف الهوى ويروح

تخذ النجم في الدياجي سميرا

لسواه يحبه لا يبوح

يحسب (الزهرة) الجميلة كأساً

فغبوق منها له وصبوح

يعبد الحسن حيث بان له الحسـ

ـن ويهوى الجمال حيث يلوح

صور الحسن بل جلاه لعيني

كل راء فحقه الترجيح

هو في الصبح بلبل يتغنى

وهو في الليل كالحمام ينوح

مؤلفاته: لقد طبع بدمشق ديوانه الأول المشتملة أغانيه على نضاله السياسي في مختلف الأقطار العربية، وبقي في كفاحه المتواصل حتى الجلاء، فرجع بعده إلى التعليم الثانوي إلى أن بلغ سن التقاعد، وهو اليوم قيم دار الكتب الوطنية بدير الزور.

أما آثاره الأدبية المطبوعة فهي: ديوان الفراتي، الجزء الأول، النفحات الأولى، العواصف، الهواجس، وهي تحت الطبع الآن.

وأما آثاره الأدبية المخطوطة المعدة للطبع فهي: صدى الفرات، النفحات الثانية، ديوان القصص، سبحات الخيال: ويشتمل على الكميديا السماوية، ديوان مترجم عن سعدي الشيرازي، ديوان مترجم عن حافظ الشيرازي، مختارات رباعيات عمر الخيام لمن ترجموه عن الأصل الفارسي.

كلمة أسف: هو شاعر مجهول، ومن المؤسف أن يقف البؤس حائلاً دون ذيوع صيته في المجتمع العربي كغيره من الشعراء؛ لأنه يمقت الظهور والدعاية لنفسه، ومن العار أن لا يفكر به قادة الوطن، فيغدقون على الشاعر إيليا أبو ماضي عشرات الألوف من الليرات لقاء قصيدة واحدة ألقاها في إحدى المناسباتبدمشـق، بينـما شاعرنـا يموت جوعـاً وقد تطاول بعبقريته على الدهر، ولكن (لا كرامة لعبقري في وطنه).

فواجعه: وأدمت قلبه فاجعة استشهاد ولده في الحدود السورية ـ اليهودية، فألهبت عبقريته وبدأ يقذف من لسانه ويراعه قلائد يزين بها جيد الدهر.

أوصافه: هو حاتمي المذهب بقدر فقره المدقع، وهذا هو الكرم الأصيل، يتمتع بمكانة اجتماعية بارزة بين الديريين، ويرون فيه ضالتهم المنشودة، حاد المزاج، سريع الرضا، قوي الحجة في مناظراته ومساجلاته.

*  *  *

 



([1])  (أ) (1/209 ـ 210).

الأعلام