محمد القبانجي العراقي
محمد القبانجي العراقي([1])
(1902م)
مولده ونشأته: هو نابغة الفن في عصره الأستاذ محمد بن عبد الرزاق بن عبد الفتاح القبانجي، وأصل أسرته من الموصل التي أنجبت العبقري الخالد بعلومه وأدبه وفنونه المرحوم الضرير الجبار (ملا عثمان الموصلي).
حضر جده منذ مئة وعشرين عاماً من الموصل، واستوطن بغداد، وكان يتعاطى التجارة.
ولد المترجم في حي سوق الغزل تحت المنارة العباسية التاريخية في بغداد سنة 1902م، وكان لبيئته البيتية الفاضلة أبلغ الأثر في حياته، فقد ربي في مهد العز والرفة، وعني والده بتثقيفه وتوجيهه إلى المثل العليا، تلقى دراسته الابتدائية، ثم أخرجه والده من المدرسة خوفاً عليه من أن يساق إلى الجندية في العهد العثماني، بعد أن أصيب باستشهاد إخوته في الحروب التركية المتواصلة، وتعاطى مع والده التجارة، وقد امتازت هذه الأسره بالصدق والأمانة والرفاه، فتوسع رزقها من الكسب الحلال.
وبعد وفاة والده استقل في عمله التجاري، وهو الآن من أكبر تجار العراق المستوردين الذي يوزع على أسواق بغداد ما يستورده من بضاعة خارجية.
ولعه الفني: كان والده من أعلام الغناء العراقي، ذا صوت شجي، فورث المترجم عن والده الصوت الحسن، وأخذ عنه الفن، وقد أولع منذ صغره بالشعر العربي، فاقتنى دواوين الأدب وحفظ أكثرها قبل الغناء، وكان يقرأ على والده ومتفنني عصره كراوية.
وكان عمه المرحوم جبر القبانجي تاجراً كبيراً، فكان يمارس العمل تارة لديه وأخرى عند والده، ويقع محل عمه في مكان يدعى (العلوة) يقع في منطقة الشورجة التجارية، وكان بجانب (العلوة) مقهى علوان العيشة، يتردد إليه جميع أهل الفن من مغنين وعازفين، فيستمع إليهم من (العلوة)، وكان بينهم المتفنن العراقي المشهور المرحوم قدور العيشة، وقد أخذ المترجم عنه أصول الغناء، وتطورت موهبة هذا الغاوي الذي أجاد حفظ المقامات العراقية التي سمعها بدوره من أمثال صالح أبو دمير، وخليل ربّات، وهما من أعلام الفن في الغناء العراقي.
وعلى هذه الصورة فإن المترجم العبقري تلقى الغناء القديم من منبعه، واختط لنفسه طريقاً فنيًّا في الغناء وبذ في أسلوبه وابتكاراته الأوائل، وأصبحت هذه الطريقة الفنية هي المدرسة الحديثة للغناء المنسوبة للقبانجي المبتكر.
المتفنن المبتكر: تمتاز المقامات العراقية في ناحيتين:
الأولى: بكونها قاعدة لتلحين جميع التأليف الغنائي والآلي.
والثانية: فإنها تعطي النوع الغنائي الخاص في العراق، والذي لا يوجد له مثيلاً في بقية البلاد العربية.
لقد انطلقت مواهب الأستاذ القبانجي عن حدود المغنين السابقين الذين كانت طريقتهم محدودة في الغناء، وابتكر طبعاً غنائيًّا خاصًّا ضمن حدود قواعد غناء المقامات.
ومن مآثره الفنية أنه أدخل على المقامات العراقية التوسعات الغنائية، وهي التي لم تكن معروفة قبل عهده في العراق، وغير مستعملة في الغناء العراقي، وهي كالحجازكار، والكرد، والحجاز الهمايوني، والنهاوند، والتكريز، والقطر، ودلكشاه حوران، وغيرها كثير.
وأبرز مآثره التي يفتخر بها: إيجاد الغناء بطريقة مقام (اللامي)، وهو غير معروف، ولم يسبقه أحد إليه، وهذا المقام شجي مؤثر يستلب الحواس والألباب، وقد ابتكره ليكون عزاء لقلبه الكليم بعد أن طغت على روحه المآسي والأحزان بفقده أربعة من فلذات كبده.
إباؤه: هو متفنن غاوٍ، لا محترف، وثري في ماله، وهو ليس بحاجة إلى الإكراميات التي تمنح عادة للمطربين، يخطب وده الكبراء والعظماء، كريم اليد والخلق، ذو أنفة وإباء وشمم، حريص على كرامته، وهذه السجايا عزت في أمثاله من أهل الفن.
وقد تعرض لنقد بعض الحاسدين الذين لا يقدرون الرجال، ولا يفقهون من الفن ما يستطيعون به سبر غور هذا النابغة المبتكر الذي تطاول في فنه الثريا.
وقد سعد مؤلف هذا السفر فتعرف إليه خلال رحلته إلى العراق في عام 1956م، فوجده آية في مواهبه وصوته الشجي الفاتن وروائع فنونه.
لقد اقترن المترجم سنة 1918م وأعقب ستة أولاد، توفي منهم أربعة، ويعاونه ولده السيد قاسم في عمله التجاري، أما ولده صبحي فهو يدرس في جامعات لندن، ومن رأيه أن لا يتزوج الفنان ليتفرغ إلى الفن دون أن يحمل كاهله أعباء الحياة.
* * *