جاري التحميل

محمد كامل الخلعي

الأعلام

محمد كامل الخلعي([1])

(1876 ـ 1938م)

مولده ونشأته: هو الشاعر الموهوب، والأديب الناثر، والموسيقار المبتكر، والملحن الجبار النابغة المرحوم محمد كامل بن سليمان الخلعي الدمنهوري، ولد بالإسكندرية في 22 رجب سنة 1296ﻫ وتموز 1876م، وجاء به والده وهو صبي إلى مصر.

استقبل كامل الدنيا طفلاً لعوباً، ولكنه لم يلبث أن اصطدم بأول حادث هز عواطفه البكر في مستهل حياته، لم يكن قد تجاوز الخامسة حين بدت نذر الثورة العرابية، وكان والده يومئذ من ضباط الجيش المقيمين بالإسكندرية، ولم يجد الضابط فرصة لتوديع ولده الطفل، واكتفى بأن بعث إلى منزله (بكرم الشقافة) من نقل زوجته وطفلها الصبي سريعاً إلى دمنهور مستقر العائلة، وبعد عام كامل عاد الضابط إلى أسرته حيًّا بعد أن أدى في سبيل الوطن واجبه، وإن انتهت الحرب على غير ما يبغي الأحرار.

وبالرغم من أن (كاملاً) قد استعاد الحياة في كنف والده بعد يأس من لقائه، إلا أن هذا الحادث لم يغادر ذاكرته ولم يزايل الأثر أعصابه، بل بقيت ذكرى هذا الألم متغلغلة في نفسه وصدره، فحولته إلى مخلوق كثير الدموع، دقيق الإحساس، رقيق الشعور بكل ما يحيط به من ألم أوسرور.

المرحلة الاولى: وفي القاهرة بدأت المرحلة الأولى لشخصية كامل، إذ كانت المدرسة أول تجربة أظهرت النزوع المتركز في عقليته، وهو عصيانه لكل نظام يحد من الحرية، وإن أوجبت هذا النظام طبيعة الوجود، وقد جنت هذه النزعة على (كامل) في حياته ومستقبله، إذ قطعت عليه طريق الدراسة التي يلتمس من ورائها المستقبل المادي في الحياة، فما انتهى من دراسته الابتدائية حتى تمرد على هذا النوع من التعليم المحدود في نطاق البرامج.

وصادفته صدمة أخرى أكرهته على التشرد بعيداً عن حضانة الوالدين، إذ نفرق ما بين هذين الولدين من رباط، فانطلق كامل يضرب في الأرض آفاقاً يلتمس الحرية والتعزي عن فجيعته في حضانة والديه، وعبثاً حاول والده أن يخضعه لطاعته التماساً لدفعه إلى المدرسة يستكمل دراسته، واستقر الفتى بعد ذلك على اختلاس التردد على مكتبة والده في ساعات متقطعة استطاع من ثناياها في مدى عامين أن يقرأ كتاب العقد الفريد والأغاني وتاريخ ابن الأثير والجبرتي وطائفة من دواوين شعراء العرب وهو لما يجاوز الخامسة عشرة.

في ميدان الفن: في هذه الفترة كان المترجم يتهيأ لأن يستمع إليه الخاصة مطرباً يحيي موات النفوس، ويراه الناس خطاطاً ورساماً قد دق إحساسه بروح الفن، وهو في هذا المجال من الصبا ينطلق بين الجماعات المختلفة، فتارة يتردد إلى مجالس العلماء وأعلام الأدب، من طراز السيد توفيق البكري نقيب الأشراف، وتارة يدارس أساتذة الموسيقى في عصره أمثال المرحوم أبي خليل القباني وملا عثمان الموصلي، ويستلهم أسرار الفن وأصوله وقواعده.

وفي هذا السباق من التخبط في الحياة انتقل والده إلى ربه بعد أن ضعف بصره، ووهنت قواه، فلم يتريث المترجم في طريقه، بل واصل حياته جادًّا مستهيناً بكل ما اعترضه في جهاده، واستطاع بعقله الخصب أن يصل إلى قمة الشهرة عن جدارة، فكان الأديب واللغوي والفقيه والشاعر والخطاط والرسام والموسيقي الذي استهوى القلوب، وتزاحم الأعيان وخاصة العلماء والأدباء على التماس الاستئثار به في مجالسهم يحادثهم في الأدب، ويطربهم بسحرأغانيه العذبة.

مؤلفه الفني: لقد نضج كامل الخلعي قبل الأوان، وشارك أساتذته في ثروتهم من الأدب وعلم الموسيقى، ولم يكن كثيراً على نبوغه المبكر أن يفاجئ الناس وهو في سن السادسة والعشرين بكتابه (الموسيقى الشرقية) فيأخذ بين علماء الموسيقى في مصر والشرق مكانة العالم المتمكن، واستطاع أن يتعلم من اللغات التركية والفارسية والإيطالية، وأن يجيد الفرنسية إجادة الرسوخ، وهو بعد أن تطاول كتابه (الموسيقى الشرقية) إلى أقطار العالم تترامى إليه رسائل المعجبين من كل صوب، مما أوجد في نفسه الرغبة إلى اقتحام مخاطر الرحلات، ثم أعقبه بمؤلفه (نيل الأماني في ضروب الأغاني).

رحلاته: زار الشام وتركيا وإيطاليا وفرنسا وتونس، وقضى في كل منها عدة من السنين، اتصل فيها بعلماء الموسيقى وأعلام الأدب حتى اندمجت شهرته بشهرتهم.

في مصر: استقر بعد ذلك في مصر أستاذاً كاملاً في علم الموسيقى، يرجع إليه المشتغلون بها في كل ما استشكل عليهم من غامض الفن، وهو في نفس الوقت يتهيأ لأن يفاجئ المصريين بنبوغ لم يتعرفوا إليه في الموسيقى من قبل، هو نوع الأوبرا والأوبريت التي أبرز فيها شخصية السيدة منيرة المهدية على المسرح الغنائي لأول مرة في التاريخ سنة 1916م، وتركز بعدها كيان الأوبرا الغنائية في فن التمثيل.

آثاره الفنية: واصل بعد ذلك جهاده الفني بين المسرح و(أجواق الطرب) بما قدم لفن الغناء من تلاميذه النوابغ ـ وأشهرهم الشيخ درويش الحريري ـ الذين علا نجمهم، وإن تنكروا له بعد ذلك في محنته، ولكنهم اليوم أصحاب السمعة والصيت دون أستاذهم المجهول الذي ساهم في وضع أساس الفن ومهدلهم سبيل الحياة، ثم مات عن خصاصة، وعاش تلاميذه في رخاء من تركة أستاذهم الفنية، وقد تجاوزت تركة كامل الخلعي من الألحان الأربعين رواية بين الأوبرا والأوبريت، منها: (اللؤلؤة)، و(لص بغداد) الخالدتين، وهي موزعة بين فرقة منيرة المهدية وشركة ترقية التمثيل العربي وفرقة الكسار، بل من إنتاج كامل الخلعي تزودت أشهر المطربات في مصر، فيسمون بأغانيه إلى مرتقى مجدهن الذي من عليائه تكونت لبعضهن ثروة تغني مئات من طراز المترجم الذي مات فقيراً معدمـاً، بعـد أن مهّـد لتلاميـذه الطريق إلى الشهرة والثراء، وكان من أشد ما لاقاه في أخريات أيامه من مرارة وألم أن مغنية كبيرة ممن لحن لهن بلغ بها الشح إلى اغتياله في حق له عندها من ثمن قطعة لحنها لها ربحت منها مئات الجنيهات، ضنت عليه بعدها بأجره، وكان من حقه عليها أن تكفيه شر ما لاقى من فقر ومسغبة.

فبقدر ما أسرف هذا العبقري في العطف على الفقراء والمكدودين، وبسط لذي الحاجات كفيه، جحد الناس فضله ونسوا أياديه على الفن، وتنكروا لأولاده من بعده، وهو لم يكن يجهل هذا المصير الذي آذنه عند تدهور قواه وسقوطه على فراش الموت؛ لأنه خبر المجتمع ودرس حياة الجماعات، وأمعن في فهم الأخلاق التي تسود القوم من تنكر وجحود وأثرة.

كان كامل الخلعي مخلوقاً غريب الأطوار في حياته وعقليته، وإذا كانت حياته الموسيقية قد طغت على قيمته العلمية، فحجب عن الجماهير شخصيته كأديب وعالم خصب؛ فإنه من غير شك كان ينحو في الحياة منحى فلسفيًّا أفرد له شخصية شاذة ذهب الناس في تكييفها مذاهب شتى، فلم يوفق باحث من كتاب الاجتماع إلى إبراز شخصيته من حيز الغموض والمجهول.

لقد كسب من فنه آلاف الجنيهات، ومات معدماً إلا عن تركة من الألحان يتناهبها جيل جديد من الملحنين، كل مجهودهم أنهم يجيدون نقل ألحان كامل الخلعي وأغانيه من رواياته القديمة إلى مقطوعات جديدة، ثم هي بعد ذلك ألحان وأغان يكتسب بها ناقلوها ومغنوها أقواتهم ويجمعون ثرواتهم، وأصحاب التركة من أولاد كامل الخلعي في عزلة عن الناس وعن الوجود.

سيبقى هذا الموسيقار مجهولاً إلى الأمد البعيد، لا لأنه كان شخصية تافهة ضئيلة الأثر في نفوس الجماهير، ولا لأنه كان غامضاً يعز على إفهام الناس كشف حقيقته، بل لأنه ظهر في عصر من الغموض والركود، بحيث لا يعني الجماهير بغير مظاهر الحياة وأشباحها البارزة للأبصار المجردة، ولو كانت الحياة الفكرية ذات وضع يمكن أن يحسه الناس في مصر؛ لما مرت عليهم صورة من صور الأحداث الشاذة دون أن يتفهموها ويستكشفوا غامض الشذوذ فيها، وإذن لحفلوا بحياة (كامل الخلعي) لا من الجانب الموسيقي فحسب، بل من جانب لم يعن به القوم في حياة هذا الفنان وهو الجانب الفلسفي.

لقد كان (كامل الخلعي) صاحب رسالة خاصة في الفلسفة لم يحفل بها الناس؛ لانصرافهم إلى حياة المادة الهينة بعيدة عن الفكر، وما يحيط الفلسفة من غموض وما يستلزمه بحثها من تكاليف.

وسواء جهلت الجماهير شخصية كامل الخلعي عن عمد، أو امتنع عليهم فهم رسالته في الفلسفة، فهو قد غادر الدنيا تشيعه أسراب من سحائب الغموض، وثوى في مرقده بين صبابات من مجاملات الأقلام جافة الدموع.

كان (الغموض) هو شعار الفلسفة التي انطبعت بها حياة كامل الخلعي، ولذلك ظل الناس يجهلون حقيقته حتى أقرب الناس إلى نفسه، وقد كان مسرفاً في الحرص على أن تفيض روحه الفلسفية على كل مجهول، وفي هذا المنحى الدقيق تلمس الإيمان الصحيح في عقيدة (كامل)، وتحس تمكن الدين من نفسه؛ لأنه رغب عن متاع الدنيا، واستطاب أن يجوع ليختفي عن سمعه صوت الجياع حتى لا يثير عواطفه توجع الغير وآلامه، فيكون من الأمور العادية عنده أن يدفع بكل ما في جيبه لمستجدٍ شعر هو بمرارة حاجته، ثم يعود إلى بيته ماشياً على قدميه وليس عند أولاده طعام اليوم، وكلما نازعه الإحساس بالندم أمام عسرته لتفريطه في قوت أولاده تدرع بقوله تعالى: ﴿      ﴾.

استطاع (كامل الخلعي) أن يفهم الدنيا فهماً صحيحاً في دقة وإمعان، واستطاع أن يستوعب المجتمع ويتفهم نواحي التقارب والتباعد من حياة الأفراد في بيئاتهم المختلفة، وأن يندمج في الجماعات اندماجا كاملاً، ومع ذلك لم تستأثر به بيئة دون أخرى؛ لأن العقلية الشاذة التي تهيأت لهذا الفنان العبقري كفلت له أن يهتضم البيئات دون أن تجتذبه إلى صميمها واحدة منها، ولهذا كان له عديد من الشخصيات التي لو وجد صاحبها في غير مصر لانصرف لدراستها علماء النفس والفلاسفة.

إذا أثيرت في مجلس ذكرى (كامل الخلعي)؛ انطلق المتحدثون في تناول ذكراه بشتى أنواع الحديث، وليس فيهم من يضع إصبعه على نقطة الصواب من أحاديث المجلس، وأغلب ما يجتمع عنده حديثهم أن الرجل كان مخبول العقل، وهي كلمة طالما ترامت إلى سمع (كامل) وهو حي يرزق، فكان يبتسم لها غير مبال بما يذهب إليه الناس في شأنه من مذاهب، ذلك لأنهم ما كانوا يجدون لأنفسهم مخرجاً من التفكير في عقلية (كامل الخلعي) إلا أنه مخبول، ذلك الذي يطوف الحارات والأزقة باحثا عن الكلاب الضالة والقطط المشردة ليدفع إليها من الطعام ما يباعد بينها وبين الجوع.

عبرة وعظة: لقد تظافرت على هذا الفنان العبقري النابغة عوامل البؤس في أخريات أيام حياته، ولم يكن هو أول موسيقار ذاق مرارة البؤس، وحط عليهالدهر بأثقاله، وثقلت على منكبيه وطأة السنين، فقد سبقه إلى ذلك كثيرون من أعلام الأدب والموسيقى، ومن المؤسف أن يتغاضى أولو الأمر عن هذه العناصر رحمة بمصيرهم المحزن، وإن هذه الحادثة التي وقعت للخلعي النابغة تدمي القلوب، وقد آثرت نشرها في ترجمته لتكون عبرة وعظة لكل إنسان في قلبه شعور وإحساس.

لقد كان المرحوم الموسيقار محمد العقاد يجلس ذات يوم في أحد المقاهي مع بعض زملائه وأصدقائه، واقترب منهم ماسح أحذية راح يدق على صندوقه معلناً وجوده، فأشار إليه المرحوم العقاد برغبته في مسح حذائه دون أن يلتفت إليه، وجلس ماسح الأحذية عند قدمي العقاد يقوم بمهمته، والعقاد مستغرق في حديثه مع أصدقائه، وفجأة التفت إلى ماسح الأحذية، فعلت على وجهه الدهشة، وراح يحدق بنظره في وجه الجالس عند قدميه وهو لا يصدق من ما يرى، لقد رأى زميله الموسيقار والملحن كامل الخلعي... وسرعان ما انحنى عليه المرحوم العقاد ينهضه من مكانه ويجلسه بجانبه والدموع تترقرق في عينيه... فلم يكن يتصور أن البؤس يصل بزميله النابغة إلى هذا الحد الذي جعله يمتهن مسح الأحذية، ومدّ العقاد يده إلى جيبه يريد أن يقدم إلى صديقه معونة مالية، فأبى كامل الخلعي وقال: لست أستحق أكثر من نصف قرش...ثمن مسح الحذاء.

ولا عجب، فإن المال كان آخر ما يهتم به كامل الخلعي...لقد كان يكتسب من عمله في التلحين مئات من الجنيهات، فلا تمضي أيام إلا ويكون قد أنفقها عن آخرها، فقد كان مسرفاً مبذراً ينفق كل ما يربحه دون حساب للمستقبل.

وفاته: لقد انتابه مرض الفالج الذي لايشفق ولا يرحم، فوافاه الأجل في شهر حزيران سنة 1938م وهو يضع آخر رواياته (أنين وحنين)، رحمه الله.

*  *  *

 



([1])  (أ) (2/572 ـ 575).

الأعلام